Site icon حديقة المقالات

طرق الترقي في الكتابة الشيخ محمد الخضر حسين

طرق الترقي في الكتابة

طرق الترقي في الكتابة الشيخ محمد الخضر حسين : من الطرق التي تنهض بالكاتب في زمن يسير، وتساعد قوته الصانعة على الإجابة في طرفة عين، وتطبع في صحيفتها مَلَكَةَ الهجوم على المعاني وبثِّها في ألفاظ رصينة غير متوعرة

انحيازه إلى دَرَيٍّ بشعاب هذه الصناعة يقف به على المنافذ التي يسري منها الخلل إلى التآليف، ويبصره بالمذاهب التي ارتقت من نحوها التحارير الفائقة.

طرق الترقي في الكتابة الشيخ محمد الخضر حسين

طرق الترقي في الكتابة (١) الشيخ محمد الخضر حسين

ليست هذه الصناعة كغيرها من الفنون لها قواعد مضبوطة ومسائل مدونة يتدارسها الكتاب،

فتنتهي بهم إلى معرفة إيراد الكلام في معاريض الفصاحة وحسن الاطراد في أنحائها،

وإنما هي عبارة عن تنبيهات ترشد إلى الجهات التي تنمو بها قوى التفنن في تصاريف الألفاظ، والتأنق في تحسين هيأتها التأليفية.

ولا نستفيق جهداً _ إن شاء الله _ في البحث عن تلك التنبيهات واستقصائها،

والإيماء إلى الكيفيات التي ينبغي أن توضع التراكيب في قوالبها؛

عسى أن تبعث تذكرتها في أفئدة نصراء اللغة العربية من أبناء هذا العصر نشاطاً جديداً؛ فيجهدوا أنفسهم عصبة واحدة؛

ليلجوا بنا في حدائق ناضرة، ومروج خَضِرة مما تستبدعه الأنفس، وتلذه الأسماع.

الإجادةُ في وضع الأقاويل أحكم وضع لا يأخذ بناصيتها إلا من كانت له قوةٌ حافظة، وقوة مائزةٌ، وقوة صانعةٌ؛

القوة الحافظة

فالقوة الحافظة يستوعب بها الكاتب من مواد اللغة ما يسعه لكل غرض يأخذ في تفصيله وتفهيمه،

حتى يكون آمناً مطمئناً من أن يكبوَ لسانه عِيَّاً وفهاهةً عندما يدفع لوصف خيل، أو نظام جيش، أو حالة حصن، أو سلاح، أو معمل أو صورة حرب مثلاً.

القوة المائزة

والقوة المائزة يمتاز بها ما يحسن من الكلام بالنظر إلى ترصيف كَلِمِهِ، وتآلف حروفه، بالنسبة إلى المقامات التي يوجه إليه بسياقاته؛

فقد يتفق مِقْولان لشخص واحد، ويكون أحدهما أحسن في نفسه، والآخر أحسن بالنسبة إلى موقعه.

القوة الصانعة

والقوة الصانعة هي التي تتولى العمل في ترتيب الألفاظ والمعاني،

والتدرج من بعضها إلى بعض، فَتُصْدِرُها ملتئمة النسج غير متخاذلة النظم، بريئة من التمايز الذي يجعل كل جملة كأنها منحازة بنفسها.

لا تكمل القوة المائزة إلا بالانصباب على مطالعة المنشآت البعيد الغور في بيانها،

المنتمية إلى الطرف الأعلى في عذوبة ألفاظها ورشاقة معانيها، وبتوسم ما أُرْسِل في طيّها من الاعتبارات المناسبة بذوق جيّد ومَهَلٍ في النظر؛

فمعرفة الفنون البلاغية وحدها غير كافية لاستواء هذه القوة واستحكامها؛

فقد نجد في المتضلّعين من قوانينها الخبيرين بِلُحْمَتِها وسُدَاها مَنْ لا يفرِّق بين الأقاويل المتفاوتة في بلاغتها وصفاء ديباجتها، وإن ارتفع بعضها فوق بعض درجات.

ولا تبلغ القوة الصانعة مبلغ التمكن وسرعة الترسل إلا بعد ارتياضها بالتمرين، والاستخدام في كل غرض تحقق عليه إرادتها في أزمنة متوالية.

ومما يربط بالأسف والتحسر على قلب كل مسلم أينع في صدره غُصْن الغيرة على اللغة الفصحى_ أنك ترى في الذين أوسعوا العلوم الأدبية خبرةً،

وساروا في التطلع على الإنشاءات الرفيعة عَنَقَاً فسيحاً (٢)، حتى أدركوا مغامزها،

وأشرفوا على ما وراء أَكَماتها _ يعجز عن التصرف في صوغ فقرات تَلُمُّ شقاقاً، أو تؤكد إخاءاً مثلاً؛

ذلك لفقده القوة الصانعة، التي لا يقيم صلبها إلا الإدمان على العمل، وهو القاعدة التي يجري عليه كل تقدم وارتقاء.

طرق تنهض بالكاتب

ومن الطرق التي تنهض بالكاتب في زمن يسير، وتساعد قوته الصانعة على الإجابة في طرفة عين،

وتطبع في صحيفتها مَلَكَةَ الهجوم على المعاني وبثِّها في ألفاظ رصينة غير متوعرة

انحيازه إلى دَرَيٍّ بشعاب هذه الصناعة يقف به على المنافذ التي يسري منها الخلل إلى التآليف،

ويبصره بالمذاهب التي ارتقت من نحوها التحارير الفائقة.

ولقد قال أئمة الصناعة الشعرية: لا تجد شاعراً إلا وقد لزم شاعراً آخر المدة الطويلة،

وتَعَلَّم منه قوانين النظم، واستفاد منه الدَّرَبة في أنحاء التصاريف البلاغية؛ فقد كان كثَيِّر أخذ علم الشعر عن جميل،

وأخذه جميل عن هدبة ابن خشرم، وأخذه هدبةُ عن بشر بن أبي خازم، وكان الحطيئة قد أخذ علم الشعر عن زهير،

وأخذه زهير عن أوس بن حجر، وكذلك جميع شعراء العرب المجيدين، والشِّعر والكتابة أخوان.

الهوامش

(١) السعادة العظمى _ عدد8، 16ربيع الثاني 1322 المجلد الأول، ص154_156.

(٢) هذا تضمين لقول الشاعر في الشاهد النحوي:

يا ناق سيري عنقاً فسيحاً

إلى سليمان فتستريحا

والشيخ الخضر  إمام في الاقتباس والتضمين.

 

Exit mobile version