دراسات لأسلوب القرآن الكريم : محمد عبدالخالق عضيمة
عضيمه : هل كان للنحويين استقراء للقرآن في جميع رواياته؟
الحرف مبتدئًا بكتاب سيبويه ومنتهيًا بابن هشام. وأجمع النصوص، ثم أرجع إلى كتب التفسير والإعراب في آيات كل حرف آية آية وأجمع نصوصها أيضًا ثم أنعم النظر في آيات كل حرف وما فيه من قراءات، وأسجل الظواهر اللغوية والنحوية على ضوء ما جمعته من النصوص.
هل كان للنحويين استقراء للقرآن في جميع رواياته؟
لو رجعنا إلى كتب النحو لوجدنا فيها رجوعًا إلى القرآن في بعض المسائل من ذلك:
1 – قال سيبويه عن الاستثناء المنقطع: هو كثير في القرآن 1: 366.
2 – أوجب الزجّاج تكيد المضارع بعد (إن) الشرطية المدغمة في (ما)، أي (إمّا) لأنه لم يقع في القرآن إلا مؤكدًا.
3 – قال ابن مالك في شرح «الكافية الشافية» 2: 44: وإلغاؤها (إذن) أجود وهي لغة القرآن التي قرأ بها السبعة في قوله تعالى: {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}.
4 – قال الرضى في شرح الكافية 2: 242: «لم يأت في الكتاب العزيز أن يكون الشرط مضارعًا، والجواب ماضيًا».
5 – لم يقع بعد (سواء) إلا الجملة الفعلية التي فعلها ماضي، ولذلك استهجن الأخفش وقوع الإسمية، والفعلية التي فعلها مضارع بعدها.
قال أبو علي في «الحجة»: «ومما يدل على ما قال الأخفش أن ما جاء في التنزيل من هذا النحو جاء على مثال الماضي». الرضى 2: 349.
6 – قال ابن هشام عن واو المفعول معه: «لم تأت واو المعية في القرآن بيقين» المغني 2: 34.
7 – ليس في التنزيل بداءٌ بعير (يا) المغني 1: 10.
8 – جر (لدن) بمن أكثر من نصبها، حتى إنها لم ترد في التنزيل منصوبة. المغني 1: 136.
كذلك نرى سيبويه يستشهد بالقرآن وببعض القراءات ما تواتر منها وما لم يتواتر. ولو قيس استشهاده بالقرآن باستشهاده بالشعر لوجدنا الشعر قد غلب عليه واستبد بجهده، فشواهده الشعرية كما ذكر أبو جعفر النحاس في شرحه للشواهد (1050)، وهي في النسخة المطبوعة بمصر (1061) على حين أن استشهاده بالقرآن لم يتجاوز (373)، وذلك كإحصاء الأستاذ النجدي في كتابه عن سيبويه ص 235.
وكذلك صنع المبّرد في «المقتضب».
وللنحويين قوانين كثيرة لم يحتكموا فيها لأسلوب القرآن، فمنعوا أساليب كثيرة جاء نظيرها في القرآن، من ذلك:
1 – ذكر سيبويه قبح (كل) المضافة إلى نكرة في أن تلي العوامل، فقال 1: 274: «أكلت شاة كل شاة حسن، وأكلت كل شاة ضعيف».
جاءت (كل) المضافة إلى نكرة مفعولاً به في 36 موضعًا في القرآن، كما تصرفت في وجوه كثيرة من الإعراب، انظر بحث (كلّ).
2 – منع السهيلي أن تلي (كلّ) المقطوعة عن الإضافة العوامل؛ نحو: ضربت كلا، ومررت بكل. نتائج الفكر ص 227.
جاءت (كل) المقطوعة عن الإضافة مفعولاً به، ومجرورة بالحرف متأخرة عن فعلها في آيات من القرآن.
3 – اشترط الزمخشري في خبر (أنّ) الواقعة بعد (لو) أن يكون خبرها فعلاً. المفصل 2: 216.
جاء خبرها في القرآن اسمًا جامدًا، واسمًا مشتقًا.
4 – منع ابن الطراوة أن يقع المصدر المؤول من (أن) والفعل مضافًا إليه. الهمع 2: 3.
جاء المصدر المؤول من (أنْ) والفعل مضافًا إليه في ثلاثة وثلاثين موضعًا من القرآن.
5 – منع النحويون وقوع الاستثناء المفرغ بعد الإيجاب، وعللوا ذلك بأن وقوعه بعد الإيجاب يتضمن المحال أو الكذب.
وفي القرآن ثماني عشرة آية وقع فيها الاستثناء المفرغ بعد الإيجاب، وفي بعضها كان الإيجاب مؤكدًا مما يبعد تأويله بالنفي، كقوله تعالى:
1 – {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} 2: 45.
2 – {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} 2: 143.
3 – {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} 12: 66.
كذلك منع النحويون أن يجيء الاستثناء المفرغ بعد (ما زال) وأخواتها وجعله ابن الحاجب والرضى من المحال وعللا ذلك.
وهذا المحال في نظر ابن الحاجب والرضى جاء في قوله تعالى:
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} 9: 110.
والعجيب أن المفسرين والمعربين اعتصموا بالصمت، فلم يتحدث واحد منهم عن الاستثناء في هذه الآية.
6 – اشترط الرضى لوقوع الفعل الماضي بعد (إلا) شرطين:
أ- أن يتقدم (إلا) فعل ماضي. ب- أن يقترن الماضي بقد.
جاء الفعل بعد (إلا) وليس فيه أحد الشرطين في ثمانية عشر موضعًا انظر ص 188 من الجزء الأول.
7 – منع ابن عصفور أن تقع الجملة الطلبية خبرًا لإنّ، وقد جاء ذلك في مواضع من القرآن.
8 – زعم السهيلي في الروض الأنف 1: 286، ونتائج الفكر ص 79 أن السين وسوف لهما صدر الكلام؛ فلا يتقدم عليهما معمول ما بعدهما، وتابعه على ذلك ابن القيم في بدائع الفوائد 1: 89 – 90.
وفي القرآن: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} 30: 3.
وقد زعما ذلك أيضًا في (قد). انظر بحث (قد).
9 – جاء جواب (إذا) الشرطية مقترنًا باللام في قوله تعالى: {أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} 19: 66 كما جاء في شعر المرّار بن منقذ.
وقال الأستاذان محققًا المفضليات طبع دار المعارف ص 92: «لم نجد هذا الاستعمال فيما بين أيدينا».
ولبعض النحويين جرأة عجيبة: يجزم بأن القرآن خلا من بعض الأساليب من غير أن ينظر في القرآن ويستقرى أساليبه من ذلك:
1 – ذكر السهيلي أنه يقبح أن تدخل السين في جملة خبر المبتدأ، فإذا أدخلت (إن) على المبتدأ جاز دخول السين، وقال: إن هذا مذهب شيخه أبي الحسين بن الطراوة، ثم ذكر أنه قال له كالمحتج عليه: أليس قد قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 4: 57.
فجاء بالسين في خبر المبتدأ، فقال لي: اقرأ ما قبل الآية فقرأت: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا …} 4: 56 فضحك وقال: قد كنت أفزعتني أليست هذه (إن) في الجملة المتقدمة … فسلمت له وسكت. نتائج الفكر ص 80.
وقد نقل حديث السهيلي بنصه ابن القيم في بدائع الفوائد 1: 90، وما خطر له أن يحتكم في ذلك إلى أسلوب القرآن، ولو رجع إلى سورة النساء وحدها لوجد فيها آيات وقعت فيها الجملة المصدرة بالسين أو بسوف خبرًا للمبتدأ، وليس قبلها (إن) من ذلك قوله تعالى:
1 – {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 4: 122.
2 – {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} 4: 162.
3 – {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} 4: 175.
هذا ما في سورة النساء وحدها، وفي غيرها كثير. انظر بحث السين وسوف.
4 – قال السيوطي في كتابه «الإتقان» 1: 170: «وترد (كم) استفهامية، ولم تقع في القرآن».
جاءت (كم) متعينة للاستفهام في ثلاث آيات، ومحتملة للاستفهامية والخبرية في خمس آيات. انظر بحث (كم).
5 – قال أحمد بن فارس في كتابه «الصاحبي» ص 172، عن القلب المكاني: «وليس من هذا – فيما أظن – من كتاب الله جل ثناؤه شيء».
في القرآن (الطاغوت) وفيها قلب مكاني، وهناك قراءات سبعية متعينة للقلب المكاني، وأخرى محتملة للقلب ولغيره. انظر كتابي «المغني في تصريف الأفعال» ص 51 – 55.
كذلك رأينا بعض النحويين يخطئ في حصر ما جاء في القرآن حينما يتعرض لذلك:
1 – قال السهيلي في نتائج الفكر ص 225 – 226: (كل) المقطوعة عن الإضافة حقها أن يكون خبرها جمعًا، وقد ورد موضعان أفرد فيهما الخبر عن (كل).
وتبعه ابن القيم في بدائع الفوائد 11: 213 – 214.
وفي القرآن آيات كثيرة، لا موضعان كما زعم السهيلي وابن القيم. انظر بحث (كل).
2 – منع الصفار من دخول (أم) على (هل) وعلى غيرها من أدوات الاستفهام، وزعم أنه لم يقع في القرآن إلا في آيتين … قال أبو حيان: وهذا منه دليل على الجسارة وعدم حفظ كتاب الله. الهمع 2: 133.
3 – قال الشيخ تاج الدين بن مكتوم في «تذكرته»: لم تقع (ما) في القرآن إلا على لغة أهل الحجاز، ما خلا حرفًا واحدًا، وهو: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} على قراءة حمزة (تهْدِى) فإنها على لغة تميم. الأشباه والنظائر 2: 58.
جاء الخبر بعد (ما) جملة فعلية في ثلاثة آيات غير قراءة حمزة. انظر بحث (ما) النافية.
4 – مراعاة لفظ (من) ثم معناها، ثم لفظها قال عنها أبو حيان: «لا نعلمه جاء في القرآن إلا في آيتين …» ثم ذكرهما. البحر 7: 184.
ثم نراه جعل من ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} 43: 36 – 37 البحر 8: 16. كما جعل منه قوله تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} 5: 60 النهر 3: 517.
ونرى في كتب النحو ذكر بعض المسائل من غير استشهاد لها بكلام العرب، أو القرآن على حين أن شواهدها في القرآن كثيرة جدًا في شرح الشافية للرضى 1: 46: «يحكى عن الأخفش أن كل (فعل) في الكلام فتثقيله جائز، إلا ما كان صفة أو معتل العين كحمر وسوق فإنهما لا يثقلان إلا في ضرورة الشعر، وكذا قال عيسى بن عمر: إن كل (فعل) كان فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله؛ نحو: عسر ويسر».
كل ما كان على (فعل) في القرآن فقد قرئ فيه بالتثقيل في القراءات المتواترة (العسر، اليسر، عسرة، العسرى، جزء، الرعب، رعبا، نكرا، رحما، سحقا، عذرا).
انظر النشر 2: 216 – 217؛ 226:
شرح الشاطبية 165، 177، 276 – ؛
غيث النفع 55، 70، 112، 145.
الإتحاف: 138، 141، 154، 161، 165، 238، 262، 275، 289.
أضف إلى هذا أن النحويين كثر منهم تلحين القراء الأئمة، يستوى عندهم في ذلك القراءات المتواترة وغيرها، وسنعرض لذلك بتفصيل وافٍ، إن شاء الله.
لقد سجلت كثيرًا مما فات النحويين، وليس من غرضي أن أتصيد أخطاءهم وأرد عليها.
ولست أقول بأن القرآن قد تضمن كل الأحكام النحوية، فالأساليب
التي لم يرد نظيرها في القرآن لا يلتفت إليها، ولا يعمل بها، وإنما أقول: ما جاء في القرآن كان حجة قاطعة، وما لم يقع في القرآن نلتمسه في كلام العرب ونظير هذا: الأحكام الشرعية، إذا جاء الحكم في القرآن عمل به، وإن لم يرد به نص في القرآن نلتمسه في السنة وفي غيرها.
وقد أوقفتني دراستي للقرآن على أن القرآن خلا مما يأتي:
1 – توكيد فعل الأمر بالنون مع كثرته في القرآن، والمضارع المجزوم بلام الأمر، والمضارع بعد التمني والترجي، والعرض، والتحضيض.
وقع المضارع المثبت كثيرًا بعد أدوات الاستفهام وخلا من التوكيد إلا في آية واحدة {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}.
2 – لم يقع خبر (لا) النافية للجنس اسمًا صريحًا مفردًا، وإنما جاء ظرفًا وجارًا ومجرورًا.
3 – عطف (ثم) للاسم المفرد لم يقع في القرآن، وإنما جاءت عاطفة للجملة.
الناظر في كتب إعراب القرآن وكتب التفسير يلحظ كثرة اختلاف النحويين في إعراب القرآن. ومرجع هذا – فيما أظن – إلى أمرين:
1 – أسلوب القرآن معجز، لا يستطيع أحد أن يحيط بكل مراميه ومقاصده؛ فاحتمل كثيرًا من المعاني، وكثيرًا من الوجوه.
2 – يحتفظ النحويون لأنفسهم بحرية الرأي وانطلاق الفكر، فلا يعرفون الْحَجْر على الآراء، ولا تقديس رأي الفرد مهما علت منزلته.
قال أبو الفتح: «اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص، والمقيص على المنصوص، فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه. وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ، كما جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: «أمتي لا تجتمع على ضلالة» وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة، فكل من فرق له عن علة صحيحة، وطريق نهجه كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره» الخصائص 1: 189 – 190.
ويقول أبو حيان: لسنا متعبدين بمذهب البصريين.
سيببويه إمام البصريين غير منازع ولا مدافع تعرض كتابه لنقد من نحاة البصرة: الأخفش، المازني، المبرد، وما أكثر ما استعمل المبرد الأسلوب اللاذع في نقد سيبويه، حتى ابن القيم وهو ليس معدودًا في النحاة – يقول في البدائع 3: 28: «فسيبويه – رحمه الله – ممن يؤخذ من قوله ويترك، وأما أن يعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا». ولم يكن هذا صادرًا عن صلف وكبرياء، فللنحويين تواضع عجيب: سيبويه الذي أثار إعجاب الناس بكتابه، وظفر بتقديرهم لم يبدأه بخطبة يكشف فيها عن جهوده، وإنما بدأه بالبسملة ثم دخل إلى الموضوع وكذلك فعل المبرد في «المقتضب».
نظر الخليل في فقه لأبي حنيفة، فقيل له: كيف تراه؟
فقال: أرى جدًا وطريق جدّ، ونحن في هزل وطريق هزل. مراتب النحويين ص 64 – 65.
وقال ثعلب: اشتغل أهل القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فيا ليت شعري ماذا تكون حالي في الآخرة؟
طريقة العرض: رأيت أن أقدم أمام دراسة كل حرف صورة واضحة موجزة لعناصر الدراسة التفصيلية، واخترت لها عنوان: «لمحات عن دراسة …» وهذه اللمحات أشبه بما تفعله الإذاعات في صدر نشراتها الإخبارية من تقديم موجز الأنباء، وآثرت هذا المنهج لأمرين:
1 – تقريب هذه الدراسة إلى نفوس القراء على اختلاف درجاتهم الثقافية، وتيسيرها لهم، فمن شاء اكتفى بهذا القدر ومن شاء رجع إلى الدراسة التفصيلية.
2 – كفل هذا المنهج لي حرية نقل النصوص في الدراسة التفصيلية، وفي اعتقادي أن البحوث النحوية إن لم ترتكز على النصوص كانت كلامًا إنشائيًا أجوف لا غناء فيه، والوقوف على النصوص في كتب النحو يحتاج إلى بذل الجهد، وقد جعلت كتابي قائمًا برأسه، مستغنيًا بنفسه، لا يحتاج الناظر فيه إلى الرجوع إلى شيء من كتب النحو، كما حشدت له المراجع الكثيرة، وسيرى القارئ كتب النحو والإعراب والتفسير في كل مسألة، ولا يعني هذا أتفاقها في كل التفصيلات، وإنما كنت أتخير أوضح ما فيها، ثم أشير إلى بقية المراجع ليسهل الرجوع إليها.
ولما كان البحر المحيط لأبي حيان أهم كتب الإعراب، وأجمعها فائدة
وأكثرها تفصيلاً فقد كان لي معه مناقشات، إذ رأيته حريصًا على تخطئة الزمخشري في الكشاف فيدعوه ذلك إلى تخطئته والرد عليه، ثم يعود فيما بعد إلى قول الزمخشري ناسيًا أنه خطأه وضعف رأيه، لذلك كان تصوير مذهب أبي حيان متوقفًا على متابعة أحاديثه في البحر المحيط.
قد يقول قائل: إن ابن هشام قد أغنى القراء في دراسة الحروف والأدوات بكتابه «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» فما الذي جاء به كتابك بعده؟
وأكتفي في الجواب بهذه الموازنة: تكلم ابن هشام عن (إلا) الاستثنائية في القرآن وفي كلام العرب، فلم يتجاوز حديثه (50 – 60) سطرًا على اختلاف طبعات المغني، واستغرق حديثي عن (إلا) الاستثنائية في القرآن وحده (153) صفحة، تزيد عن ثلاثة آلاف سطر.
وابن هشام يقول في المغني 2: 177: «لأني وضعت كتابي لإفادة متعاطي التفسير والعربية جميعًا».
وقيل له: هلا فسرت القرآن أو أعربته؟، فقال: أغناني المغني.
كتب التفسير كثيرة، ولا يغني كتاب منها عن آخر. وفي اعتقادي أن مما يفيد المفسر أن يجد دراسات تتناول أسلوب القرآن من جوانب متعددة، على أن تكون هذه الدراسات مرتكزة على الاستقراء والاستقصاء.
الحديث عن الحروف والأدوات شغل ثلاثة أجزاء تجاوزت الآيات فيها والقراءات (28700) وحجمه في أرواقي يزيد كثيرًا عما نُشر،
وقد خطر لي أن أكتفي بالقول بأنه هذا النوع كثيرٌ في القرآن أو كثيرٌ جدًا، ثم رأيت أن مثل هذه الألفاظ لا تقدم صورة واضحة القسمات لما في القرآن،
لذلك رأيت أن أكتفي بذكر أرقام السور والآيات فيما يكثر وروده في القرآن، ومن السهل الوقوف على هذه الآيات، إذ كل مصاحفنا مرقمة الآيات والسور، وبهذا جمعت بين الفائدة والاختصار.
وسيتلو هذه الأجزاء الثلاثة – إن شاء الله – الحديث عن الجانب الصرفي، ثم الحديث عما بقى من الجانب النحوي، نسأل الله العون والتوفيق والسداد.
محمد عبد الخالق عضيمة
حلوان
20 من جمادى الآخرة سنة 1392
31 من يوليو سنة 1973.
نهاية المقال: النحويين واستقراء القرآن
فهرس المقالات في هذا الموضوع : دراسات لأسلوب القرآن الكريم
وسوم :
#دراسات_لأسلوب_القرآن_الكريم
#محمد_عبدالخالق_عضيمة