قرار الإلحاد مقال للكاتب نور الدين قوطيط ، تضمن ثنائية الاستعداد للهداية والضلال ، رسوخ الأمية الشرعية والمعرفية ، حرب تغيير القناعات ، تعزيز سلطة الشهوات
قرار الإلحاد
نوُرُالدِّين قُوطِيط
لا يعُرف خلال التاريخ الإسلامي الطويل انفجار موجة إلحادية، بمعنى إنكار وجود الله سبحانه،
كما يعرفه واقع العالم الإسلامي اليوم، فضلا عن الواقع العالمي،
بالرغم من أنه خلال هذا التاريخ الممتد، كانت هناك كل العوامل التي يربط بها اليوم الشبابُ انقلابهم إلى الإلحاد وانتقالهم إليه من الإسلام والإيمان!
خلال هذا التاريخ؛ عرف المسلمون الحروب والصراعات، وعرفوا الطغيان والاستبداد، وعرفوا الفقر والمجاعة، وعرفوا الازدهار والحضارة، وعرفوا الأمراض والشرور، وعرفوا المكايد والمؤامرات، وعرفوا الفساد والانحرافات.
ومع كل هذا، لم يحدث كما قلنا أن عرف هذا
التاريخ الطويل موجة إلحادية عاتية كما هو الحال اليوم، فواجب علينا أن نسأل عن عوامل وظروف اتخاذ قرار الإلحاد؟
بادئ ذي بدء؛ من المهم أن ننبه هنا على أن كل ظاهرة من الظواهر الاجتماعية العامة، لا تحدث من فراغ ولا تنشأ بدون مقدمات ممهدات،
بل قد مضت سنة الله سبحانه في حياة البشرية أن الظواهر الاجتماعية لابد لها من أسباب ممهدة، تنشئ الاستعداد لها،
وتدفع بالميل والاتجاه نحوها، وتمدها بعوامل البقاء والاستمرار،
ولهذا ما زال القرآن يحث نا على تأمل تاريخ المجتمعات، لندرك السنن الحاكمة على حركة التاريخ البشري: ( قد خَلت مِنقبَلكُم سُنَنٌ فسَيرُوا فيِ الأَرضِ فاَنظُروُا ) . آل عمران/ 137
والإلحاد بما أنه نشاط إنساني، وطبيعة النشاطات الإنسانية قدرتها الكامنة على التحول إلى ظواهر عامة،
فلا شك أنه خاضع لتلك السنة الإلهية، أعني أنه لا ينشأ من فراغ ولا يحدث بلا أسباب تمهد الميل إليه وتدفع بالسقوط فيه.
ومن الخطأ البالغ أن نظن أن هذا الملحد أو ذاك، جاءته الرغبة في الانتقال إلى الإلحاد، هكذا فجأة،
وبلا مقدمات ولا أسباب اتخذها مبررات لهذا الانتقال، فهذا الظن اختزال شديد للقضية!
يمكن أن نقرأ إلحاد الذين يلحدون في إطار العوامل التالية:
1 – ثنائية الاستعداد للهداية والضلال.
عندما نبحث عن الإنسان في الرؤية القرآنية، نجد من ضمن سماته المقررة،
سمة الاستعداد للهداية والضلال، للاستقامة والانحراف، للارتقاء والسقوط، كما في قوله: فأََلهمََهَا فُجوُرَهاَ وَتقواَهاَ . الشمس/ 8
وقوله: لمنَِ شَاء مِنكُم أَن يتَقََدمَ أَو يتَأََ خر . المدثر/ 37
هذه القابلية الثنائية الفطرية في الإنسان، وثيقة الصلة بالبعُد النهائي الذي خلُق لأجله الإنسان في عالم الدنيا، أي العبودية لله سبحانه بمفهومها الشامل والمتكامل،
كما قال سبحانه: وَمَا خَلقتُ الجن وَالإنسَ إِلَّا ليِعَبدُُونِ . الذاريات/ 56
وهذا ما يؤكد على تمت ع الإنسان بالإرادة الحرة في الاختيار بين البدائل، بين الإيمان وال كفر، بين الاستقامة والانحراف، بين الصعود والسقوط.
وإذ كان الأمر كذلك، فالإنسان بحكم أنه يعيش ضمن شبكة واسعة من المعطيات والعلاقات والتحديات،
فلا شك أن ميله إلى جانب الإيمان أو الكفر، الاستقامة أو الانحراف، الطاعة أو المعصية، رهين بعوامل متداخلة، ذاتية وخارجية.
وهذا أحد أسباب وجود النبوات وإنزال الشرائع، أعني أن الله سبحانه إنما أرسل رسله وأنزل شرائعه لتكون عونا للإنسان على تحقيق المهمة ال كبرى التي خلُق لها،
عبر تيسير سبل الإيمان، والهداية، والاستقامة،
وتضييق سبل الكفر، والضلال، والانحراف، كما أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: إنَّا أَنزَلناَ إليَكَ الكِتاَبَ بِا لحقِ فاَعبدُِ اللَّه مُخلصًِا لَّه الدينَ . الزمر/ 2
وزعماء الإلحاد ورؤساء الإفساد في الأرض، يدركون هذه القابلية في الإنسان،
ولذلك يحرصون شديد الحرص على توفير أسباب الضلال وال كفر والانحراف،
على المستوى الفكري والمستوى القيمي، ليكون الفرد هو الذي يجد من داخل نفسه رغبة في السير في هذا الاتجاه.
ولذلك لستَ تحد ملحدا إلا وهو يؤكد لك أنه لم يلحد إلا عن بي نة ولم يخرج من الإسلام إلا عن أدلة،
رغم أن الجمهور يعانون من أمية معرفية مثيرة للشفقة قبل أي شيء آخر!
2 – رسوخ الأمية الشرعية والمعرفية.
يوم خلق الله سبحانه الإنسان الأول، آدم عليه السلام، وتساءلت الملائكة ال كرام عليهم السلام عن الأبعاد النهائية وراء خلق هذا الكائن الجديد،
أشار الحق سبحانه إلى إحدى أخص خصائص هذا المخلوق الجديد،
وهي خاصية العلم والتعلم، فقال:
وَعلََّمَ آدَمَ ا أَ سماَء كلَّهَا ثُمَّ عَرَضهَم علَىَ الملَاَئكَِةِ فقََالَ أَنبئِوُنِي بأَِ سماَءِ هؤََٰلَُاءِ إن كُنتمُ صَادِقِين . البقرة/ 31
لقد كان هذا تنبيه ا ساطع ا على أن الإنسان بلا علم يكون بلا قيمة ولا معنى،
ولهذا جاءت النبوات بالحث على العلم والإشادة بأصحابه، إذ كان من أهم وسائل الاعتصام من الزيف والدجل والخرافة.
الذي حدث وبفعل أسباب مختلفة ومتشابكة خلال القرون الخالية، ويتحمل المسؤولية أيضا بعض المشايخ فضلا عن الإعلام العلماني،
وسياق الواقع السائل الذي نمر به أن الشباب المسلم اليوم ليست له رغبة في طلب الحد الأدنى من العلم الشرعي،
أي معرفة الأصول الكلية والمفاهيم الكبرى، في العقيدة والتشريع،
لتكون علاقته بالله قائمة على العلم، وليعتصم بها من مغالطات المناوئين وتزييف المفسدين.
وبحكم هذه الأمية الشرعية المنتشرة بين جمهور الشباب اليوم،
صارت نفوسهم مهترئة وعقولهم مستعدة للاختراق من طرف الأفكار الهدامة والتصورات المنحرفة والمغالطات الماكرة.
وليت شعري إذا كان المسلم اليوم يعيش في فضاءات مفتوحة ( إعلام، إنترنت، وسائل التواصل ) ،
كيف يكون بمنجاة من القصف الفكري والقيمي الذي يشنه عليه أعداء الحقيقة،
وهو جاهل بمبادئ عقيدته ومفاهيمها وأسسها ومقاصدها؟!
إن من يتابع الشباب أو يحاورهم أو يتلقى أسئلتهم وإشكالياتهم، ليأخذه العجب كل مأخذ من تلك الأمية الشرعية التي تطبع عقول كثير منهم،
بل لولا المعرفة المسبقة بواقع الانحراف اليوم، لكان المرء يجزم بأن هذه العقول الفارغة من العلم لابد أن تسقط مع أول تشكيك،
أو هي فعلا قد سقطت في الشباك المرصودة لها!
3 – حرب تغيير القناعات.
بعد انتهاء الحروب الصليبية قديم ا،ً خرج الغرب بخلاصة مهمة، وهي أن هزيمة المسلمين مستحيلة عبر الهجوم العسكري والحرب المادية المباشرة.
ثم خلال الحملات الصليبية في القرنين الماضيين، ازداد الغرب يقينا بصحة هذه الخلاصة،
لكنه قرر أنه لن يخرج هذه المرة من العالم الإسلامي كما خرج أول مرة، بل لابد أن يزرع في أبناء هذه الأمة ( فيروسات) السقوط التلقائي،
ليتمكن من إبقائهم تحت سلطته العليا وفي دائرة أجنداته النهائية!
إنها حرب تغيير القناعات.. هكذا قر ر الغرب الصليبي الرأسمالي بدوافع الأحقاد والأطماع شن حروب فكرية على المسلمين،
وهي حروب ستضمن له الفوز والنجاح بدون خسائر بشرية كما حدث في الحروب السابقة.
هذه المعركة وهذه الحرب الجديدة لا يتردد الغرب نفسه في الاعتراف بها والتوكيد عليها،
فقد وجدنا مثل ا وزير الحرب الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، يصرحان بها علانية.
ولا نحتاج هنا للتذكير بتلك الجهود الضخمة والهائلة التي قام بها المستشرقون لتزييف الإسلام وتفريغه من مضامينه،
عبر كمَِ هائل من الأكاذيب والمفتريات، وترسانة ضخمة من التضليلات والتحريفات!
واليوم دخل على الخط جيش من الدجاجلة من بني جلدتنا، يتسابقون على تنفيذ المهمة، بوسائل مختلفة،
تصب كلها في التلاعب بعقول الشباب وتزييف وعيهم وفصلهم عن عقيدتهم،
عبر شعارات بر اقة جذابة تستهوي العقول الفارغة، من قبيل الاجتهاد والتجديد، والإبداع والتطوير، والعقلانية والعلم، ومواكبة التقدم والحضارة!
وإن المرء ليعجب من شدة اجتهاد هؤلاء المنافقين الجدد والملاحدة الأخفياء في القيام بهذه الوظيفة القذرة،
لولا أنه يتذكر أن معركة الحق والباطل، الإسلام والجاهلية، التوحيد والإلحاد ما زالت قائمة منذ قرون موغلة في تاريخ البشرية،
وتلك سنة من سنن الله سبحانه في مجتمع الإنسان.
4 – تعزيز سلطة الشهوات.
شاء الله سبحانه أن يكون الإنسان كائنا ذا غرائز وشهوات مختلفة.
هذه الغرائز والشهوات في ذاتها خير ورحمة وسعادة، فالله تعالى لا يخلق شيئا عبثا.ً
ولذلك كلما تمت تلبية هذه الغرائز والشهوات تلبية صحيحة سليمة وبطرقها النظيفة المسؤولة، تز كت النفس، واستقامت الحياة،
وتلاحم المجتمع، وارتقت الحضارة.
وكلما تم خنق هذه الغرائز والشهوات أو تمت تلبيتها بطرق غير مشروعة ولا مرضية، فسدت النفس، وانحرفت الحياة، وتفككت الأواصر، وانهارت الحضارة،
كما نراه واضحا في الأمم الخالية والمعاصرة.
الذي حدث هو أن العلمانية المادية اليوم ما فتئت تثير شهوات الإنسان إلى أقصى حدودها،
وتضغط عليها بعنف وقوة للظهور والانفلات عن مسارها الصحيح.
وكانت النتيجة أن الإنسان اليوم لم يعد قادرا على التحرر من سلطان الشهوات والدوران في فل كها، فهو مستغرق فيها فكرا وتصورا،ً فعلا وسلوكا،ً أهدافا وأحلاما.ً
وحين تستغرق الشهوا ت الإنسانَ، تكون قابليته لتبني الأفكار المنحرفة قوية جدا،ً
لأ ن العقل المعياري لصحة الأفكار وخطئها يكون مقهورا تحت سلطان الشهوات،
فهو تابع للنفس وأهوائها، بعد أن كان الأصل أن تكون هي تابع ا له!
والحق أنك إذا تأملت طبيعة الإنسان، وتفكرت في واقع الأمم والمجتمعات قديمها وحديثها، ستجد أن صعود مستوى الشهوات يلزم عنه تراجع مستوى العقل.
وسر ذلك، أن من يعيش في شهواته لا يستطيع أن يقف عند حد معين، بل لا يزال لاهثا وراءها بلا نهاية،
وذلك ما يعني أنه يعيش حياة فضفاضة، سائلة، بلا قيم ولا مبادئ، وبلا معنى ولا غاية،
وكل هذا ينشئ فيه حالة غفلة وإعراض عن الارتباط بالقضايا ال كونية ال كبرى، وتأمل سر وجوده ومصيره.
لا عجب إذن أن تجد جمهور الشباب اليوم، تحت ضغط التخلف الاقتصادي،
والتفجير الشهواني العنيف الذي يمارسه الإعلام العلماني، فضلا عن القدرة على الانتقال عبر الإنترنت والأفلام، لمتابعة الرفاهية الغربية..
لا عجب أن تجدهم يعيشون في أوهام الشهوات، ومن ثم لديهم قابلية رهيبة للاختراق الفكري والعقدي،
وللسقوط تحت قصف الشبهات، وإعلان التمرد على الدين والإله،
بعد أن تم خداعهم بأن ما أنتم فيه هو بسبب الدين والإله!
الخلاصة :
وبعد: كانت تلك إطلالة قصيرة على أهم العوامل التي ينشأ فيها قرار الإلحاد بين الشباب اليوم،
وهي كما ترى، عوامل لها وزنها واعتبارها، ولا يمكن تجاهلها وتجاوزها.
وهذا ما يعني أن على المصلحين، من مشايخ ومثقفين ودعاة، مسؤولية عظيمة، لأن المهمة في سياق هذه العوامل ثقيلة جدا.ً
لكن من المؤسف أن نعترف بأن جمهرة عريضة ممن ينُتظر منهم القيام بهذا الدور الرسالي المقدس،
لا تزال تجهل هذه التحديات، ولا تزال مشغولة بمعارك جانية أكثرها معارك تاريخية عقيمة، لا تفيد عموم المسلمين وجمهور الشباب.
وقد تعلمنا من تاريخ الأفكار والحضارات أن الباطل لا يقوى إلا بانسحاب أرباب الحق من ساحة المعركة.
والله المستعان.
سلسلة فصول وأصول (1)