الدعوة إلى الخير للشيخ محمد عبدالعزيز الخولي ، مجلة جمعية مكارم الأخلاق، العدد الأول، في رجب ١٣٤٣هـ. جاء المقال في ١١٢٠ كلمة و ٦٦ فقرة. تكرر فيه كلمات ( الدعوة ، الخير ، الناس ، الحكيم ، الرسل ، الحق ، الأخلاق ، العليم ، الْمُسْلِمِينَ )
الدعوة إلى الخير للشيخ محمد عبدالعزيز الخولي
الدعوة إلى الخير(١) للشيخ #محمد_عبدالعزيز_الخولي
قال _ تعالى _: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)] فصلت.
أصدق الحديث كتاب الله _ تعالى _ لأنه كلام العليم الحكيم: العليم بالنفوس، وما يسعدها، وما يرقيها، وبالأمم وما يدنيها من السعادة والعزة وما يقصيها.
وهو الحكيم في أمره، ونهيه، ووصفه، وفعله؛ فلا يكون منه إلا ما يتفق مع مصلحة الأفراد والأسر والجماعات والأمم،
وإذا وصف أدوية الأمراض والعلل فخير الأوصاف وصفه، وخير الأدوية دواؤه؛ فالشفاء من العلل مُعْقِبه لا محالة.
وإذا كان ذلك شأن الله وشأن كلامه فاستمع لإرشاده، وتمسك بقرآنه، وتدبر معناه ومرماه وفحواه ومغزاه،
وكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومن الذين ظهرت آثار الموعظة الحسنة في قلوبهم وأخلاقهم وأعمالهم،
ولا تكن من الذين قالوا: سمعنا وعصينا؛ فإن ذلك الشقاء بعينه والخسارة ليست بعدها خسارة.
ولا أظنك من هؤلاء وقد اتخذت الإسلام ديناً، وجعلت كتاب الله إماماً، فالظن بك أن تكون المستمع المنصت لما يلقيه عليك العليم الحكيم من النصائح،
فاستمع أرشدني الله وإياك إلى الصراط المستقيم الذي لا يضل سالكه، ولا تلعب بعقله وفطرته الأهواء والشهوات.
الإنسان يتكلم كثيراً، ولكن النافع من كلامه قليل، والله _ جل شأنه وتعالت حكمته _ يرشدنا في هذه الآيات إلى خير الكلام، وأصدقه، وأحسنه، وأنفعه
قال: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)] فصلت.
فأعذب الناس لفظاً، وأحسنهم قولاً الذي يدعو إلى الله، وإلى دينه الحقِّ، وشريعته الحكيمة العادلة الكفيلة بسعادة الناس في دنياهم وأخراهم.
الدعوة إلى الخير : مسلك الرسل
وكيف لا يكون أحسن الناس كلاماً وقد سلك مسلك الرسل في الدعوة إلى الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
والعمل على تطهير النفوس من رذائل الأخلاق، ومحدثات الأمور، وتكميلها بما يرفع شأنها، ويعلي أمرها.
واعلم أن الدعوة إلى الله لا تنفع ولا تجدي إلا إذا كانت صادرة عن نفس طيبة لله مخلصة قد امتلأت بحب الدين، ورسخت فيها أخلاقه وأعماله؛
فإن الكلمة منها تؤثر بالنفوس ما لا تؤثره السيوف، وتسوقها إلى الخير ما لا تسوقها القوة الغاشمة،
وإن الكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب، وإن خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان.
وهل تظن بكلام لا يبرهن عليه عملك أن تكون له قيمة عند الناس؟
هيهات هيات؛ فقبل أن تنصب نفسك داعية إلى الخير هذبها بالأخلاق الطيبة،
والأعمال الصالحة من صدق، وكرم، وعزة، وشهامة، ونجدة، ومروءة، وصلاة، وزكاة، وحج، وصيام؛
فإن لهذه من التأثير في كمال النفوس، وسوقها إلى الخير أثراً كبيراً، وصلاحاً عظيماً.
ولهذا قرن الله الدعوة إليه بالعمل الصالح؛ لأنه عماد الدعوة، ووسيلتها التي تجعلها نافعة مفيدة؛
فكمِّل نفسك تستطعْ تكميل غيرك، وهذِّب خلقك يتأدبِ الناس بأدبك، وينهجوا مثل نهجك.
وإن الدعوة إلى الله كما تكون باللسان تكون بالأعمال، والناس يتأثرون بالأعمال أكثر مما يتأثرون بالأقوال.
فالحكومة التي يرأسها وزير قائم على رعاية المصالح، وإعطاء الحقوق، والضرب على أيدي الظالمين، والصلابة في الحق،
وعدم التأثر بالأهواء والشهوات _ يغلب في أفراد حكومته وموظفيها تلك الشيم العالية، والمكارم الطيبة.
والبلد الذي استقام علماؤه، ونصبوا أنفسهم حراساً على الدين، ودعاة إليه يهتدي أهل البلد بهديهم، ويرتسمون طريقتهم.
وناظر المدرسة وأساتذتها إذا كانوا مثالاً صالحاً في أخلاقهم وأعمالهم وإخلاصهم وقوة عزيمتهم _ نشأ تلامذتهم على شاكلتهم متأدبين بآدابهم، سالكين مسلكهم.
وكذلك رب الأسرة إذا كان ورعاً تقيَّاً نهاره في عمله، وليله في بيته، لا يقصر في واجب الله أو الناس،
ولا تؤثر في نفسه الشهوات التي أضلت كثيراً، وظنوا أنها السعادة، وإنْ هي إلا الشقاوة.
الدعوة إلى الخير : قدوة يتخلق بأخلاقه
هذا الشخص يتخلق بأخلاقه، ويعمل بأعماله زوجُهُ، وبنوه، وبناته، بل وأقرباؤه، وجيرانُه، ومن يختلط بهم في العمل؛
فاستقامة رب البيت مدعاة لاستقامة أهل البيت، وإن المنبت الطيب لا ينبت إلا طيباً، والبيئة الفاسدة لا تنشئ إلا فساداً.
فيا معشر الرؤساء كلكم راع ومسئول عن رعيته؛ فليتق الله كل فيما يرعاه، وليكن له مثالاً طيباً، وأسوة حسنة، وقدوة صالحة.
ولما كان الدعاة إلى الحق يتصدى لهم معارضون مفسدون يسيئون سمعتهم،
ويعرقلون أعمالهم كما جرت سنة الله في خلقه كما نطق به القرآن [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ] الأنعام:112.
ولما كانت سنة الله فيهم كذلك، وكان لا بد لهم من التصادم مع أنصار الباطل، وأعداء الحق _ ندبهم الله إلى أن يقابلوا قولهم وعملهم بلين من القول،
وجميل من العبارة لا يدل على التراجع عن الحق، ولكن على التمسك به فيقول كل منهم: [إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)] فصلت،
المنقادين لأوامر الله _ سبحانه وتعالى _ والمحافظين على حدوده؛ فإن أسأتم إليَّ فلي رب يحميني، وإله يدفع عنِّي،
وما أنا ممن أتى منكراً، أو زوَّر قولاً إن هو الطريق مستقيم استبانت لي أعلامُه، ووضحت محجتُه، فسلكته على بصيرة،
وإن الذي وفقني لسلوكه لسوف يوفقني لغايته، وما يضرني كيدكم شيئاً إن كان الله يريد نفعي ونصري.
ثم بيَّن _ جلَّ جلاله _ أنه لا تستوي الحسنة ولا السيئة، بل لين القول مقدّم على جافِّه، ورقيقه مقدَّم على غليظه،
ومقابلة الهفوة بالعفو، والإيذاء بالصفح أنجح في باب الدعوة، وأرجى للإجابة [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ] البقرة:237.
ولذلك قال _ جلَّ جلاله _:[فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)] فصلت:34، أي صديق قريب؛
فمقابلة السيئة بالحسنة، والرذيلة بالفضيلة تجعل الأعداء أصدقاء، والمشاغبين مسالمين، والمنافقين مخلصين، والبعيد عن حقك وعملك قريباً منك.
الدعوة إلى الخير : غاية الداعية
وذلك أهم ما تصبو إليه نفس الداعي أن يهتدي الناس بهديه، ويتأدبوا بأدبه،
ويتخلقوا بخلقه أي أن يكونوا على الصراط المستقيم الذي سلكه _ صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض؛
فالمسالمة في الدعوة _وإن طالت مدتها_ أولى من المعاداة والمشاكسة، ولنا برسول الله “أسوة حسنة؛
فإنه مكث أربع عشرة سنة يدعو إلى الله بقوله وعمله، ولم يجرد سيفاً، ولم يعلن حرباً إلا بعد أن خشيَ على دينه من أعمال الكفار،
وبعد أن أخرج هو وأتباعه من ديارهم وأموالهم[أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)] الحج.
واعلم أن مقابلة السيئة بالحسنة أمر شاقٌّ لا يقدر عليه إلا شخص وطَّن نفسه على الصبر، ومرَّنها عليه حتى صار عادة له.
وكذلك لا يقوم بها إلا شخص له حظٌّ عظيم من الكمال الخلقي، والتهذيب النفسي،
والعمل الصالح ولذلك يقول _ جلَّ ثناؤه _: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)]السجدة.
فأخبر _ جلَّ ثناؤه _ بأنهم لم يصيروا أئمة في الهداية، وقادة في الدعوة إلا بعد أن تحلوا بالصبر،
وكانوا موقنين بآيات الله إيقاناً ظهرت آثاره في أعمالهم وأخلاقهم؛ فلما كانوا كاملين صابرين جعلهم الله أعلاماً للهداية، وأئمة في الخير.
فيا من نصبت نفسك للدعوة، وأقمت نفسك مقام الرسل الدعاة الهداة تحمَّل كلَّ ما يلاقيك من المحن بقلب ثابت، وجأش رابط، ولا تزعزعنَّك الكروب؛
فإنها مربِّية الرجال، ومهذِّبة الأخلاق، ومكوِّنة النفوس.
وإن رجلاً لم تعركه الحوادث، ولم تجرِّبه البلايا لا يكون رجل إصلاح ولا داعي خلق إلى حقٍّ؛
فوطِّن النفس على تحمُّل المكروه، وابذل كل ما تستطيع من قوة ومال يهدك الله طريقاً رشداً،
ويصلح بك جماعات بل أمماً [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)] العنكبوت.
الهامش
(١) مجلة جمعية مكارم الأخلاق، العدد الأول، ص 16_ 21، رجب 1343هـ.
اقرآ الكتاب على موقع المكتبة العربية الكبرى