Site icon حديقة المقالات

مدنية الإسلام والخطابة للشيخ محمد الخضر حسين

مدنية الإسلام والخطابة

مدنية الإسلام والخطابة، عن هذا الموضوع كتب الشيخ #محمد_الخضر_حسين  مستعرضاً شواهد مدنية الإسلام من الكتب التي وثقت هذه المدنية في أوروبا في القرون المتوسطة وما شابها من حقائق وافتراءات ، وعن الخطابة ودور الخطيب في نفي خبث هذه الكتب وإحياء مفاخر المسلمين ونشر ثقافتهم . المقال في كتاب السعادة الكبرى نشر عام ١٣٢٢ هـ

مدنية الإسلام والخطابة للشيخ محمد الخضر حسين

مدنية الإسلام والخطابة (1) للشيخ محمد الخضر حسين

أتى على هذا العالم حين من الدهر، ومعظمه تحت قبضة دولتي الفارسيين والرومانيين، لا يخشون فيه منازعاً ولا يهابون معارضاً، وذلك قبل بعثته _عليه الصلاة والسلام_ بنحو ثلاثة قرون.

وانتشبت خلال هذه الأزمنة المستطيلة والآماد البعيدة بين هاتين الدولتين حروب دموية كان شررها مستطيراً،

ولم تأخذهم بأبناء جنسهم المكرم رأفةٌ تغل أيديهم عما أرهقوهم به من الخسف والعدوان، وساموهم به من سوء العذاب الذي كانوا يصبون صواعقه على رؤوسهم صبّاً متوالياً.

انقسمت دولة الرومان سنة 395م إلى قسمين، قسم في الشرق وعاصمته القسطنطينية،

وقسم في الغرب وعاصمته رومة، وبعد هذا التقسيم بنحو ثمانين سنة، منيت الدولة الرومانية الغربية بغارة شعواء شنتها عليهم البرابرة،

اندفعوا عليهم من آسيا اندفاع السيل مِنْ عَلُ؛ فأيقظوا في قارة أوروبا فتنةً رمت بشواظها ذات اليمين وذات الشمال،

وعاثوا فيها بأضرب الفساد وأنواع البغي، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعل المتوحشون.

كل ذلك يفصِّله لك التاريخُ بتبيان لا يشوبه غموض، ويذكرك بأيامه الخالية تذكرة نافعة.

ولم تزل تلك الفتن قائمة على سوقها، والجهالة المظلمة ضاربة أطنابها بمشارق الأرض ومغاربها،

إلى أن انفتحت في الحجب المحدقة بأنوار الحضرة المحمدية كوةٌ نفذت منها بوارق لمعت في جزيرة العرب أولاً،

ثم انبعثت منها أشعة إلى سائر أطراف المعمورة، فقشعت ببهرتها سحائب الهمجية الغالبة، وأخمدت نيران الضلالة المرهقة.

مدنية الإسلام : شهادة مؤرخي الإفرنج

وإن المنصفين من مؤرخي الإفرنج على ذلك لمن الشاهدين،

قال أحد فلاسفتهم وكتّابهم شارل ميسمر في كتابه تذكار العالم الإسلامي: الإسلام أفاد العالم، فيلزم أوروبا أن تحافظ على حياة أهله.

وقال المسيو دروي أحد وزراء معارف فرنسا السابقين في كلامه على الأمة العربية _نقلته إحدى المجلات المصرية_:

وبعد ظهور النبي “الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة تَقَصَّد مقصداً واحداً، ظهرت للعيان أمة كبيرة،

مدَّت جناحها من نهر تاج في إسبانيا إلى نهر الجانج في الهند،

ورفعت على الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة.

ثم قال: إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم،

وانقشعت بسببهم سحائب البربرة التي امتدت على أوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين،

ورجعوا إلى الفحص عن ينابيع العلوم القديمة،

ولم يكفهم الاحتفاظ على كنوزها التي عثروا عليها، بل اجتهدوا في توسيع دائرتها، وفتحوا طرقاً جديدة لتأمل العقول في عجائبها.

ولعلك بعد أن تصغي إلى هذه الشهادة التي لا تختلج بريبة تنفث في رُوْعك،

ما لنا نرى إخوان الإسلام بمعزل عن سعادة الحياة وراحة العيش، يوم أصبح غيرهم يتقلب في سعة الملك وبسطة من الرفاهية.

فنجيب: تأمّلْ جيداً _بصَّرك الله_ أن الوادي الذي يهيم فيه المسلمون لهذا العهد غير الطريقة التي سنّها كتاب الله، وشرحت وجهتها السنّة الصحيحة.

ما عليه غالب المسلمين الآن إنما هو مثال ينطبق عليه ما توسوس عليه الكتب المحشوة بالتُرَّهات الباطلة،

والخرافات التي تؤثر في العقائد والأخلاق خَمةً وفساداً، ككتاب ألف ليلة وليلة، وقصة عنترة، وقصة فتوح اليمن، وكتاب أعلام الناس،

وكتاب قصص الأنبياء المنسوب لأبي منصور الثعالبي، وكتاب مُجَّاني الأدب وبعض كتب المواعظ والتفاسير المملوءة بالأحاديث الموضوعة، وقصص الإسرائيليين.

هذه الكتب وأشكالها هي الآن أكثر انتشاراً بين عامة المسلمين من الكتب المعتمدة،

ويحسبون أن ما فيها هو من التعاليم الدينية، ولا يدرون بأنها فتحت علينا باباً من الغواية وآخر من المعرة، لا يسدهما إلا البراءة منها وحرقها أينما وجدت.

مدنية الإسلام : تطهير الأفكار

ولو طهرنا أفكارنا مما اشتملت عليه هذه الأسفار من القاذورات،

وأفرغنا فيها من التعاليم الثابتة والآداب الحقة وابلاً غزيراً _ لأثمرت في جوارحنا أعمالاً صالحة نستوفي أجورها مرتين.

من المسؤول أولاً عن هذا الانقلاب العظيم الذي أودى بالمسلمين قاطبة إلى مرارة العيش وكدر الأنفس وهم لا يشعرون؟

هم سادتنا العلماء؛ فإنهم تنازلوا عن شيء كثير من خطتهم، وضيقوا في نطاقها إلى حد لا يسع إرشاد الأمة وإصلاحها،

ولا ينكر ما حدث منذ أزمنة غير قريبة، وامتدت سلسلة تعسة وشقاية لهذا العصر من اتخاذ بعض المتردين برداء العلم اسم الدين شراكاً يقتنصون منه مآربهم الشخصية،

ومنهم من تختم المطامع والجشع على أفواههم؛ فيكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمناً قليلاً، والذي يتولى كبر هذه المسؤولية خطباء المنابر،

فإن كثيراً منهم غيّروا الخطب تغييراً فاحشاً كاد يخرج بها عن دائرة حكمتها التي شرعت لها.

شرعت الخطب للإرشاد إلى ما غايته راحة في الدارين، وسعادة في الحياتين،

وما مثل الخطيب في قومه إلا كمثل الطبيب الحكيم يُسْلَم إليه شخصٌ؛ ليتكفل بالمحافظة على صحته،

فلا يمكنه توفية هذه المحافظة حقها إلا بتفقد بدن ذلك الإنسان، وتعهده في جميع الأزمنة،

فإن طرأ على بِنْيَتِه اعتلال، أو مزاجه انحراف بادر إلى معالجته بدوائه المناسب له، وإلا فشأنه التحذير مما تتولد منه العلل، وتتعفن به الأخلاط.

مدنية الإسلام : الخطابة واختيار مواضيع الخطابة

وكما أن الطبيب لا يخص مراقبته بالأعضاء الرئيسية الدماغ والقلب مثلاً ويترك ما عداه غير مأسوف عليه_ كذلك الخطيب لا يقف بتذكرته النافعة عند حد العبادات المحضة؛

فإن التمكن من القيام بقواعدها له شروط ووسائل لا يتم إلا بها؛ فلا بد من استلفات الأنظار إلى استجماعها، والتنشيط إلى الاستعداد فيها،

ومن هنا وجب أن يكون الخطيب بحاثاً عن أحوال الأمة، متفطناً لمصالحهم الدينية والدنيوية.

إن أدرك الناسَ فتورٌ عن إقامة شعائر الدين استمالهم إليها ببواعث الترغيب تارة، وقرَّعهم بسيوف الترهيب تارة أخرى،

وإن تخبطتهم شياطين التدابر والتخاذل عوَّذهم من شر عاقبتها الوخيمة بِرُقْيَةِ الآيات والأحاديث التي تحيي في نفوسهم عواطف المحبة والائتلاف،

وإن آنس من أخلاقهم عوجاً وحيفاً كعدم الصدق في المعاملات والتظاهر بالمداهنة والنفاق بشبهة أنها دهاء وسياسة

عالج استقامتها بمواعظه الحسنة وفي المواعظ شفاء الصدور،

وإن خامر عزائمهم داء الفشل والتلذذ بالراحة الوقتية؛

فَقَيَّدا سواعدهم عن أعمالهم الصناعية التي بلغت بها الأمم التي يضرب بها المثل في القوة والسيادة مبلغاً عظيماً

استنهضهم بلسان الشريعة السامية، للمسابقة في ميدانها والمزاحمة على إحراز غاياتها،

وأنذرهم سوء المنقلب الذي يتقلب فيه البطالون.

الهامش

(1)السعادة العظمى _ عدد13، غرة رجب 1322هـ المجلد الأول، ص193_197.

#اسماء_مقالات_مميزة

#مقالات_في_المدنية

#محمد_الخضر_حسين

اسماء مقالات مميزة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية المجموعة الثانية

اقرآ الكتاب على موقع المكتبة العربية الكبرى

 

Exit mobile version