Site icon حديقة المقالات

لماذا أخفقت الجامعة العربية ؟ وكيف تصبح أداة نافعة للعرب ؟ للدكتور مصطفى السباعي

لماذا أخفقت الجامعة العربية

لماذا أخفقت الجامعة العربية ؟ وكيف تصبح أداة نافعة للعرب ؟ نص الكلمة التي ألقاها الدكتور السباعي في احتفال الهيئة الوطنية في لبنان بالذكرى الثامنة لجامعة الدول العربية

لماذا أخفقت الجامعة العربية ؟ وكيف تصبح أداة نافعة للعرب ؟ للدكتور مصطفى السباعي

“نص الكلمة التي ألقاها الدكتور السباعي في احتفال الهيئة الوطنية في لبنان بالذكرى الثامنة لجامعة الدول العربية في 5 رجب 1372 هـ – 21 مارس 1953 م”.

أقامت الهيئة الوطنية في لبنان حفلة كبرى بمناسبة الذكرى الثامنة لتأسيس الجامعة العربية،

وذلك مساء السبت الواقع في 5 رجب 1372 هـ الموافق 12 من آذار (مارس) 1953 م،

وقد حضر الحفلة رئيس المجلس النيابي ورئيس مجلس الوزراء والنواب والعلماء وفريق كبير من وجوه العاصمة وشبابها وسيداتها.

وتكلم في الحفلة كل من الدكتور سليم حيدر وزير المعارف، والأستاذ فؤاد عمون المدير العام لوزارة الخارجية، والدكتور مصطفى السباعي نائب رئيس المجلس النيابي السوري سابقاً، والأستاذ نبيه فارس رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأميركية في بيروت، والأستاذ رمضان لاوند.

وقد كان لكلمة الدكتور السباعي صدى عظيم في مختلف أوساط العاصمة لما اتسمت به من الصراحة والجرأة في الحديث عن أخطاء الجامعة العربية وأسباب فشلها.

وقد رأينا – نحن فريقاً من تلاميذ الأستاذ السباعي – نشر هذا الخطاب القيم ليكون في متناول أيدي الجمهور وحملة الرأي والقلم في أمتنا،

عسى أن تتعاون القلوب المخلصة على إشادة بناء نهضتنا الحديثة على أسس ثابتة لا تضطرب ولا تنحرف.

فريق من طلاب الجامعات

في لبنان

بيروت 27 من رجب 1372 هـ

12 من نيسان 1953 م

كلمة الدكتور مصطفى السباعي في احتفال الهيئة الوطنية

ينقسم حديث الناس عن الجامعة العربية في مثل هذه المناسبات إلى ناحيتين اثنتين:

الفكرة التي قامت عليها الجامعة، والخطة التي سارت عليها الجامعة لتحقيق تلك الفكرة.

فكرة الجامعة

أما الجامعة العربية كفكرة، فنحن من الذين يرونها أمراً لا بد منه مهما طال الزمن أو قصر؛

إن وحدة العرب واجتماع شملهم ووقوفهم بين الأمم كأمة واحدة في وطنها وفي رسالتها هو مما لا مجال للنزاع فيه؛

لأنه منطق الحياة، ومنطق التاريخ، ومنطق الحوادث،

ولندع لأولئك الذين يشككون في هذه الحقيقة عن طريق العلم، أو عن طريق السياسة، أو عن طريق العاطفة، أو عن طريق التاريخ المصطنع، أو عن طريق الخوف الموهوم،

لندع لهؤلاء أساليبهم في نقاش الفكرة العربية أو محاربتها أو إضعافها؛

فإن الزمن وحده هو الذي سيجعل من نقاشهم وتشكيكهم عبثاً كان يحاول أن يسد على الحق طريقه،

ومتى بدأت الأمم تشق طريقها إلى الحياة، فإرادتها وحدها هي التي تحكم على علم العلماء وفلسفة الفلاسفة وعبث العابثين.

خطة الجامعة

وأما الجامعة العربية كوسيلة وخطة، فالناس إزاءها أيضاً فريقان:

فريق يحسن الظن ويغدق الثناء وينسب إليها المعجزات،

وفريق يسيء بها الظن ويلحق بها وزر ما أصاب العرب من محن.

وإني لأصارحكم إني من الفريق الثاني.

وبهذه الروح سأنقذ الجامعة العربية وأتكلم عما منيت به من هزائم منكرة وعما أخفقت فيه من حاولات إخفاقاً ذريعاً.

إن الأمم قد تصاب بنكسات، والدعوات قد تمنى بهزائم، وإن المصلحين قد يتعثرون في أول خطوات الطريق،

ولكن هزيمة الجامعة وإخفاقها ليس من ذلك في قليل ولا كثير..

إن هزيمتها هزيمة القادر على الانتصار ولكنه أبى إلا أن ينهزم،

وإخفاقها إخفاق القادر على النجاح بيد أنه أبى إلا أن يفشل.

لقد كان لدى زعماء الجامعة العربية حين قيامها كل وسائل النجاح والنصر: من ظروف دولية، ومن وعي قومي عام، ومن قلوب تخفق لرؤية الوحدة العربية حقيقة قائمة،

لقد كانت شعوب العرب ورقابهم وأموالهم وثرواتهم وبترولهم وأحاسيسهم،

كل ذلك كان أسلحة ماضية في المعارك التي خاضتها الجامعة العربية،

ولكن الرؤساء أبوا إلا أن يجعلوها أسلحة مفلولة تلحق بنا أشنع الهزائم.

لماذا فشلت الجامعة؟

ولا مجال الآن لتعديد أسباب هذا الفشل، ولكني أقتصر على أمرين رئيسيين:

لم تنشأ الجامعة بإرادة الرؤساء

أولاً: إن الجامعة حين قيامها لم تنشأ بإرادة من الرؤساء دفعتهم لتحقيق آمال شعوبهم في الوحدة والاجتماع،

وإنما نشأت بإرادة أجنبية كان من مصلحتها أن تقوم هذه الجامعة في تلك الظروف،

ولم يكن عند العرب مانع من أن تلتقي المصلحة الأجنبية مع المصلحة العربية،

ولكن المؤسف أن المصلحة الأجنبية ظلت دائماً وأبداً هي محور نشاط الجامعة من حيث يدري أكثر أعضائها أو لا يدرون.

فبدا رجال الجامعة بوجه الممثلين لأدوار أعدت من قبل لتلعب لعبتها المكشوفة فيما بعد،

ورضي الممثلون لأنفسهم أن يكونوا هدف تصفير الجماهير وسخريتها أيضاً!..

ثانياً: إن الجامعة كانت توجهها عقليات متخلفة عن الزمن تتسم بهذه الميزات:

أ‌- المطامع الشخصية

العمل في دائرة المطامع الشخصية، وليست قضية فلسطين إلا مثلاً للمطامع التي أدت إلى تلك الكارثة،

لقد كان كل جيش حذراً من الآخر، وكان كل ملك أو رئيس يخشى أن يستغل سواه هذه الحرب لو نجحت،

ولا أنسى – ومن واجبي أن أذكر هذه الحقيقة ليذكرها أحفادنا من بعد – إننا حين كنا في القدس وأحسسنا بخطر سقوطها في أيدي الأعداء، وبدأنا نرسل صرخات الاستغاثة،

وكان مما قاله لنا بعض الرؤساء الكبار في الجامعة: لا تهتموا بسقوطها فسنستردها نحن وإخواننا!..

ولما أوشكت القدس أن تسقط في أيدي الأعداء في إحدى المعارك الضارية، وأخذنا نستنجد برؤساء الجامعة في الليل.. كان الجواب من أحد رؤسائها الكبار:

إذا كنتم تشعرون بالخطر فانسحبوا منها!

قلنا: ولكنها القدس! وفيها أربعون ألف لاجئ، ولو انسحبنا منها لتمت أفظع مجزرة في التاريخ؟!

فكان الجواب.. ولكنكم عندنا أغلى!..

وأقسم لكم أننا لو أصغينا يومئذ إلى تلك النصائح الغالية! لرأى العالم اليوم أعمدة هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى وكنيسة القيامة!.

ب‌- ازدراء قوى العرب

النظر إلى إمكانيات العرب وقواهم نظرة ضعف وازدراء، وإلى إمكانيات غيرهم نظرة قوة وإكبار،

وعلى هذا الأساس كانت توجيهات الدول الاستعمارية تلقى آذاناً صاغية في دوائر الجامعة ويستجاب لها بدون إبطاء،

وكان العذر في أنفسهم دائماً: إننا ضعفاء لا نستطيع أن نقف في وجوه أولئك الأقوياء..

وليس أمر الاستجابة إلى طلب الهدنة الأولى إلا مثلاً لازدراء قادة العرب بقوى أمتهم وشعوبهم،

واعترافهم في قرارة أنفسهم بأنهم لا يستطيعون أن يبدوا حراكاً تجاه رغبات الدول الكبرى.

ت‌- تضليل الجماهير العربية

اعتبار الجماهير العربية كتلة من غُثاء الشعوب تؤخذ بالعاطفة، وتخدع بأكاذيب البيانات وبلاغة الخطب والتصريحات..

لقد كانوا – في معركة فلسطين – يعطوننا النصر في بيان، ويلحقون بنا الهزيمة في ميدان!..

وكان كل شيء يسير وفق ما تبيِّت الدول الكبرى، ورؤساؤنا يحققون لهم أهدافهم

ثم يأبى فريق منهم إلا أن يصموا آذاننا بالعزم على مواصلة الكفاح في البر والبحر والجو، كما كان يقول تشرشل تماماً في أيام الحرب!

ولكن غيرنا كان يقول هذا والدموع تنحدر من عينيه،

أما بعضهم فقد كان يقول لنا هذا وأموال فلسطين تملأ يديه، والضحك من جماهيرنا يكاد يمزق رئتيه!.

ث‌- عدم اعتبار مصالح العرب

اعتبار الجامعة العربية رابطة بين دول لا أداة لتجمُّع أمة!

فكانت مصالح كل دولة هي التي تسيطر على عقول رجال الجامعة،

وليس أدل على ذلك من أنهم قد أصدروا من البيانات التي تؤمن بالتعاون والوحدة ما يملأ أسفاراً ضخمة،

ولكن الجامعة لم تخط حتى الآن خطوة واحدة إيجابية في سبيل التعاون الصحيح العملي المثمر،

ذلك لأن ما ينفع دولة من هذه الخطوات، قد يضر الأخرى،

ولو كانت مصلحة الشعوب العربية هي التي ينظر إليها رجال الجامعة في كل مقرراتهم لما تضاربت المصالح،

ولكنها مصلحة دول أو كيانات مبعثرة يريدها بعض الرؤساء حدوداً فاصلة إلى الأبد بين أبناء أمة واحدة!.

ج‌ – رجعية رؤساء الجامعة

جمود رؤساء الجامعة في وجه التطور الذي شمل العالم العربي في أفكاره ووسائل معيشته،

فلقد أبى أكثر هؤلاء الرؤساء حتى اليوم أن يفهموا أن معركة الحياة التي يخوضها العرب اليوم ليست معركة سلاح أو سياسة بقدر ما هي معركة فكر ونظام وعلم..

لقد كانت قوانا واليهود في معارك فلسطين غير متكافئة.. كانت المعركة بيننا وبينهم معركة بين فوضى وتنظيم، وفقر وغنى، وجهل وعلم، وعاطفة وعقيدة..

فهل تعجبون من ذلك إذا انتصر النظام على الفوضى، والعلم على الجهل، والعقيدة على العاطفة الجاهلة؟!..

ولا يزال حتى الآن كثير من رؤساء الجامعة لا يريدون أن يفهموا أن ابن القرن العشرين لا يغلبه ابن القرن الخامس عشر بسلاحه ونظامه، وبجهله وبطراز معيشته!

وأن جماهير وفدت إلى فلسطين من أنحاء الدنيا لعقيدة نُشِّئت عليها منذ الصغر، لا يمكن أن تغلبها جماهير حُشدت من مختلف دنيا العروبة لغاية لا تعلمها، ولفكرة لم تغذَّ بها ولا ربيت عليها!.

الهزيمة هزيمة الرؤساء وحدهم

هذه أيها السادة هي أهم ما تمتاز به العقلية التي كانت توجه سياسة الجامعة، فانهزمت وألصقت بنا عار هذه الهزيمة.

أما نحن: فما زلنا نعلن منذ انتهت معركة فلسطين، أننا لم نخسر إلا الجولة الأولى منها، وأن تلك الجولة لم تخسرها شعوبنا ولا أمتنا، وإنما خسرها رؤساؤنا وملوكنا وقادتنا العسكريون فحسب!..

فلا مجال ليائس ولا لشامت أن يشمت من هزيمة الجامعة فيتخذ منها وسيلة لمحاربة الفكرة التي قامت عليها.

لا تزال الجامعة محط آمالنا

إن فكرة الجامعة هي فكرة القدر الذي أبى ألا تكون دنيا العرب دنيا واحدة في مصالحها وآلامها وآمالها،

وإن تمايزت في قطر منها عن قطر، وتباينت في ثقافتها أو مشاكلها ما بين بلد وبلد..

ومن ثم فنحن لا نزال نرى الجامعة العربية رمزاً لآمالنا البعيدة، ومهوى لأفئدتنا الكليمة،

ولكن ذلك لا يتم إلا إذا سارت الجامعة بعد الآن خطى وعقلية جديدة، تقوم على الحقائق التالية:

مصلحة الجماهير قبل مصلحة العروش

أولاً: إن مصلحة العروش والرئاسات هي من مصلحة الشعوب والجماهير..

فلا سلطان لعرش فقد سلطانه في قلوب شعبه، ولا كرامة لرئيس فقد شعبه كل مظاهر الكرامة في حياته!

إن كرامة أمتنا في أن تتحرر من الجهل والفقر والضعف والظلم والخوف والرذيلة..

فليحرر ملوكنا ورؤساؤنا شعوبهم من هذه القيود، تكن لهم كرامتهم وسلطانهم في الأفئدة والقلوب،

وما دام في دنيا العرب شعب يخاف من الحاكم أن ينقده فيكبل بالأغلال،

وحاكم يخاف من معارضيه في الرأي فيرى فيهم متآمرين على حكمه وحياته.

فلن تستطيع الدنيا العربية أن تحطم قيود الأعداء من حولها..

إن الشعوب لا تساق إلى ميادين المجد بالنار والضغط والإكراه، وإنما تساق إليها بالعقيدة ولذة التضحية ورغبة الاستشهاد.

كبرياء الشعب إن أذللتها *** لن تراه في العلى يهوى الزحاما

وهوادي الرأي أما احتبست *** في صدور القوم أفلتَّ الزماما

إن على ملوك الجامعة ورؤسائها أن يعطوا شعوبهم الحرية، لا هبةً ولا منة ولا صدقة! بل حقًّا مقدساً لهذه الجماهير يعادل حق الحياة بل لا حياة دونه!

فمن اغتصبه كان شرًّا ممن يغتصب الأموال، ومن حال دون تمتع الأمة به كان أشد – في نظر الحق والتاريخ – جريمة ممن ينتزع من نفس واحدة حياتها..

إن حرية الشعوب هي مفتاح انطلاقها في معارج المجد،

فمن شاء أن يدخل من باب الخلود فليفتح لأمته باب الحرية على مصراعيه،

ومن أبى إلا أن يغلقه دونها فليفعل ثم لن يكون أعز على الله من فرعون وهامان وقارون منالاً ولا سلطاناً!.

أمتنا ذات قيمة عظيمة

ثانياً: إن أمتنا شيء عظيم في عالم الفكر، وفي عالم الحضارة، وفي عالم السياسة، وفي عالم الاقتصاد، وفي عالم الحرب، وفي عالم السلم،

وهي تستطيع أن تتوج كل فريق من المعسكرين المتصارعين اليوم بإكليل الهزيمة أو النصر إن شاءت،

فلماذا نعطي إكليل النصر هدراً من غير ثمن؟ لماذا نصوغ من دماء شبابنا ومن ثروات بلادنا ومن حرية أمتنا تاجاً نضعه فوق رؤوس الأقوياء، وهم لا يزالون يجحدون حقنا في الكرامة، بل حقنا في العيش ببلادنا أحراراً؟

لماذا نذهب مع من يريد منا أن نذهب معه إلى حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر قبل أن نقول له: اخرج من وادي النيل، ومن أرض الشمال الإفريقي العربي، ومن المحميات العربية على الخليج العربي، ومن كل أرض لنا لا يزال الغاصبون يحتلونها ويذلون كبرياءنا فيها؟!.

لماذا يزجون أمتنا في الحرب؟

إن أمتنا لا ترضى أن تجرَّ إلى حرب تداس فيها مقدراتها بأقدام المتصارعين..

وإذا كان لا بد لنا من أن نخوض حرباً، فليقولوا لنا: لماذا؟ وما هو الثمن؛ أللدفاع عن حريتنا؟

فليتركونا في بلادنا أحراراً نتصرف بمقدراتها وثرواتها تصرف الأحرار بشؤونهم!

أم الثمن هو أن ندفع خطراً موهوماً تفصلنا عنه آلاف الأميال؟

ولكن لِم يريدوننا أن لا ندفع الخطر الجاثم فوق صدورنا وعلى حدودنا وفي قلب بلادنا؟..

إن أمتنا أكرم في نظر التاريخ وعند الله من أن تعطي رقبتها للجزارين الذين طعنوها بسكين في ظهرها

ما تزال دماؤها تقطر منها ولا تزال جراحها تتنزى!.

وجوب العناية بالروح والأخلاق

ثالثاً إن الأمم لا تبني أمجادها إلا بقوتين متعاونتين: قوة من سلاح وقوة من روح..

وأنا لا أريد بالروح تلك الانهزامية الاتكالية الواهنة التي تفر من الحياة، ولا أريد بها تلك القوة المكذوبة التي نسجها الغرور أوهاماً تملأ أدمغة الشبان الأبرياء! كلا!

إنما أعني بالروح: تلك القوة المبدعة الخلاقة التي تنشئ الحياة..

تلك الفضائل التي بنت بها أمتنا الممالك وشادت الحضارات، وخاضت بها معارك التحرير في القديم والحديث،

إنها الروح المستمدة من الإيمان بالله وبشرائعه، وهي الروح التي تفقدها أمم الحضارات اليوم،

فهي أبداً ما تزال تنقلب من جحيم إلى جحيم. ولن تعرف الاستقرار والسعادة إلا يوم تتعرف إلى روحنا نحن،

وتتقدم لتأخذها من يدي محمد والمسيح عليهما السلام!.

إن أمتنا وهي على عتبة حياة مليئة بتكاليف الكفاح وأعباء النضال، في حاجة إلى هذه الروح التي تحبب لها الفداء، وترخص الأموال، وترغب في الصبر، وتربى على الإخلاص، وتبث في النفوس أنبل عواطف الحب والإخاء والوفاء.

وإن الامتناع عن الاستفادة من هذه الروح خوفاً من الطائفية البغيضة ليس إلا جهلاً بطبيعة هذه الروح وبحقيقة أمراض هذه الأمة.

الأديان حرب على الطائفية

إن الطائفية عداء وخصام واستعلاء طائفة على طائفة، وظلم طائفة لأخرى،

فمن يستطيع أن يجرؤ على القول بأن هذه هي روح الدين في قرآنه وإنجيله؟ وأن هذه تعاليم الدين في إسلامه ومسيحيته؟.

حين اشتد أذى قريش بالمسلمين لم يجد رسول الله خيراً من نجاشي الحبشة يلجأ إليه أصحابه فيجدون عنده الأمن وحرية العبادة. فأمر صحابته أن يهاجروا إلى الحبشة،

وكان الملك النصراني عند ظن الرسول الإسلامي، فاستقبلهم أحسن استقبال وأبى أن يسلمهم إلى قريش وقال لهم: بل تنزلون عندي أعزة مكرمين.

ولما جاء نصارى نجران إلى الرسول في المدينة استقبلهم في مسجده وفق ديانتهم، فكانوا يصلون صلاة النصارى في جانب، ورسول الله يصلي صلاة المسلمين في جانب!.

وهكذا تآخى العارفون بدينهم.. يوم كان النصارى يفهمون روح مسيحهم، ويوم كان الإسلام يعلن للدنيا مبدأ حرية الأديان وتقديس الشرائع وتكريم موسى وعيسى وإخوانهما من أنبياء الله ورسله،

فمتى حدثت الطائفية في تاريخنا؟

الطائفية دخيلة على أمتنا

ألا إنها لم تحدث في عصر محمد رسول الله، ولا في عصر خلفائه الراشدين، ولا في عصور الأمويين والعباسيين،

وإنما حدثت يوم ابتعدنا جميعاً على أدياننا وسمحنا للمتاجرين بها أن يعكروا صفو قلوبنا، وللأعداء أن يفرقوا وحدة صفوفنا..

يومئذ فقط مدت الطائفية رأسها لتلصق بأدياننا وبأمتنا مخازي ليست منها.

فالطائفية ليست عميقة الجذور في أدياننا ولا في طبائعنا وإنما هي بذرة خبيثة دخيلة نحن الذين سمحنا لها أن تنمو وتترعرع في تربتنا فحقت علينا لعنة الله..

وإن القضاء عليها لن يكون بكلمات النفاق من السياسيين المحترفين، ولا بمؤتمرات تعلن الوحدة متسترة بطائفية مقنَّعة.

وإنما يجب القضاء عليها بعلاج من داخل أنفسكم أنتم أيها الناس..

من ضمائركم، من قلوبكم، من أخلاقكم، من إيمانكم، من قرآنكم وإنجيلكم، من محمدكم ومسيحكم..

هنا هنا علاج الطائفية المقيتة.. وهنا هنا يتم الشفاء!.

إن أمتنا وهي ترث جهالة العصور، وخرافة الجهالة، وانحطاط الخرافة، ليس لها ما يجدد عزيمتها ويفتح بصائرها إلا أن تجلى لها روحها الموروثة الدفينة،

وتستفيد من تراثها المشرق البنّاء،

وتستلهم نظامها الجديد من قيمها الأخلاقية والتشريعية،

وكل إعراض عن الاستفادة من هذه الروح تعطيل لمواهب أمتنا من أن تعمل، ولسلاحها من أن يصقل،

ولفضائلها من أن تتجسد على الأرض المعذبة جيلاً يمشي بأقدام الإنسان وأرواح الملائكة.

نداء إلى رؤساء الجامعة

أما بعد: فإني وأنا أعلم أني في مكان لا يسمعني فيه رؤساء الجامعة وملوك العرب وقادتهم،

لا أجد بُدًّا من أن أرسل هذه الصرخة وأنا واثق من أنها لن تضيع في ثنايا التاريخ.

متعوا شعوبكم بالحياة السعيدة

إن على ملوكنا ورؤسائنا أن لا يحولوا بيننا وبين الحرية والحياة السعيدة؛

لنشعر بكرامتنا في أنفسنا قبل أن نطلب كرامتنا في نفوس أعدائنا،

إن خيراً لهم وأكرم لقيادتهم وأعظم لمكانتهم أن يقودوا أمة من الأسود، من أن يجروا وراءهم قطعاناً من الغنم!.

لا تبيعونا في سوق المصالح

وإن على ملوكنا ورؤسائنا أن يعلموا حين يفاوضون باسمنا حول مشاريع يراد لنا أن نوافق عليها.. أننا نحن أبناء الشعب؛

نحن الذين سندفع الثمن من دمائنا ومن أموالنا ومن أراضينا ومن ذرارينا ومن حرماتنا ومقدساتنا،

ولن نكون أمة تبيض وجوه قادتها يوم اللقاء، إلا إذا دافعنا عن بلادنا وحرياتنا ونحن أقوياء أحرار لا نباع في سوق المصالح الخسيسة بيع الرقيق على أيدي أخس النخاسين ذمة وضميراً!.

استفيدوا من قوانا الروحية

وإن على ملوكنا ورؤسائنا أن يتركوا قوانا الروحية تعمل عملها الإنشائي في كياننا الجديد،

وخير لهم أن يرأسوا مجتمعاً يزخر بالفضائل، من أن يكونوا على رأس أمة انطفأت فيها شعلة الحياة الكريمة لأنها فقدت في قلوبها إشراقة الروح المؤمنة.

هذا هو حكم الحق، وصدق الحديث، وفصل التاريخ، وكل انحراف عنه ضلال، وكل تجاهل له غباء، وكل محاربة له جريمة وفناء.

#مصطفى_السباعي

Exit mobile version