Site icon حديقة المقالات

أول درس ألقيته للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات

أول درس ألقيته مقال للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات تكلم فيه عن تجربته في مواجهة أول درس ألقاه وكيف تعامل التلاميذ معه كمعلم جديد ، تجربة الوقوف في الفصل بين الطلاب يمر بها كل معلم وتختلف باختلاف شخصية المعلم وثقافة وتربية الطلبة ، وتناول الكاتب الطريقة المثلى لتقديم الدرس الناجح والمميز ، مقال أدبي سلس لم يقلل من جماله استخدام الكاتب لعبارات من العامية المصرية مثل أفندي ، حضرتك ، وبئى

أول درس ألقيته للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات

أول درس ألقيته (1) للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات

أبداً لا أنسى تلك الساعة الرهيبة العصيبة التي ألقيت فيه أول درس في أول فصل،

كان ذلك منذ سبعة عشر عاماً، والسن حديثَة، والنفس غريرة، والنظر قصير،

وكانت المدرسةُ ثانويةً أجنبيةً، تجمع أخلاطاً من الأجناس والأديان، وأنماطاً من الأخلاق والتربية،

وكنت قد أدركت قسطاً من العلم النظري على الطريقة الأزهرية،

وشدوت طرَفاً من التعليم الفني على الطريقة اللاتينية، إلا أن ما حصَّلت منهما كان لا يزال طافياً في ذهني، متحيراً في فكري،

لا يطمئن إلى ثقة، ولا يستقر على تجربة، أضف ذلك إلى طبع حيي، ولسان من الخجل عيي، ووجهٍ للقاء الناس هيوب.

قضيت موهناً من الليل في إعداد الدرس، أراجع مادته، وأرسم خطته، وأسدد خطاه،

ثم احتفلت لكلام أقابل به التلاميذ قبل التمهيد للدرس؛ وغدوت إلى المدرسة أقرَعُ باب الأمل المرجو، وأستطلع ضمير الغيب المحجَّب.

دق الجرس؛ فجاوبه قلبي بدقات عنيفة كادت تقطع نياطه، وتشق لفائفه، وقمت أجر رجلي وبجانبي مفتش الكلية جاء يُقَدِّمني إلى الطلبة.

دخلنا الفصل؛ فحيانا التلاميذ بالوقوف، وقال المفتش، فأطال القول، وأجزل الثناء، ثم خَرَج وبقيتُ!!

أقسم لك أني أقول الحق،وإن كنت أجد بشاعة طعمه، ومرارة مذاقه على لساني؛

لقد نظرت إلى التلاميذ نظرةً حائرةً، ثم رجعت إلى نفسي أحاول إخراج ما فيها من الكلام المُهَيأ المحفوظ،

فكأن ذاكرتي صحيفة بيضاء، وكأن لساني مُضْغَةٌ جامدة لا تحس.

سكون ومواجهة

السكون شاملٌ رهيبٌ، والأبصار شاخصة ما تكاد تَطْرُف، ووجوهُ الشباب ترتسم عليها ألوان مختلفة متعاقبة من خطرات النفوس، ونزوات الرؤوس،

وأنا واقف منهم موقف المحكوم عليه، أعالج في نفسي الخَوَرَ والحَصَر، وأجهد في لم ما تَشَعَّثَ من ذهني، وتبدد من قواي،

حتى هداني الله إلى طريق الدرس، فاعتسفته اعتسافاً دون مقدمةٍ ولا تمهيدٍ ولا عَرْض!!

أتريد أن تُعْفيَني يا صديقي من وصف هذا الدرس؛ إبقاءً عليَّ وصوناً لسر المهنة؟

ولكن لماذا نتدافن الأسرار، ونتكاتم العيوب، ما دامت هذه المجلة خاصةً بنا، مكتوبةً منّا ولنا؟

إن في الدلالة على أوعار الطريق ومضايقها ومزالقها تحذيراً للسالك البادئ، وتبصرة للناشئ الغَرِير.

بدأت الدرس بصوت خافض، وطرف خاشع، ولسان مبلبل، وسرت فيه وأنا واقف لا أدنو من السبورة؛ مخافة أن أحرك سكون الفصل،

ولا ألمس الطباشير، خَشَاةَ أن أسيء الكتابة!!

كان من المعقول أن يعاودني الهدوء، ويراجعني الثبات بعد زوال دهشة الدخول ورَبْكة البَدْء، لو كنت واثقاً من نفسي، متمكناً من درسي.

ولكنَّ نظامَ الموضوع كان قد انقطع؛ فتبعثرت حَبَّاته، وتعثَّرت خطواتُه، ورُحْتُ أسرُد ما تذكرته منه،

وأنا أشعر بكلماتي تُحْتَضَرُ على شفتي، وبِرِيقي يجمد في فمي، وبِعَرَقي يتصبَّب على جبيني، حتى فَرَغْتُ، ثم جلست أبلع ما بقي من ريقي،

ونظرت فإذا الساعة لم يَمْضِ نصفُها، وإذا التلاميذ يتلاحظون ويتهامسون

وعلى كل شفة بسمة خبيثة لولا تَعَوُّدُ النظامِ، وقوةُ التهذيب لعادت قهقةً صاخبة!!

أسئلة وأسئلة

ماذا أقول بعد أن نفد القول؟ وبماذا أملأ الفراغ الباقي من الوقت؟ وكيف أؤخر انفجار هذه الضحكات المكظومة؟

أسئلة كانت تضطرب في خاطري القَلِقِ؛ فلا أجد لها جواباً غير الحيرة!! حتى تطوع تلميذ جريء؛ لإنقاذ الموقف فقال:

إحك لنا حكاية يا أفندي بأى(2) !.

ولم تكد شفتاي تنفرجان عن مشروع الرد حتى ابتدرني آخر: =لأَّ يا أفندي، اتكلم لنا شَوَيَّة إنشا شفهي.

وآخر:  حضرتك حتدِّينا على طول؟.

وآخر : اسم حضرتك إيه يا أفندي، والله إنت راجل طيب !!.

وآخر :  فلان صوته جميل يا أفندي، خليه يغني شويَّة.

فقطعت سيل هذه الأسئلة المتجنية الساخرة بهذه الجملة الحيية المتواضعة: على كل حال كاد الوقت ينتهي؛ فلا يتسع لشيء من هذا.

ولكن صوتاً انبعث من أقصى الحجرة يقول: أوه ! دا لسه ساعة وربع! حصة العربي ساعتين كل يوم !!

ساعة وربع؟؟ نعم ساعة وربع! أقضيها على هذه الحال الأليمة كما شاء نظام (الفرير) أو كما قضى الجدُّ العاثر، وإذن لا مناص من انفجار البركان ووقوع الكارثة.

كأنك تريدني على أن أسوق إليك بقيةَ القصة!!

حنانيك، ولا تكلفني هذه الخُطة، واعتمد على نفسك وحَدْسِك في التخبر والاستنتاج!

لقد انحل النظام؛ فتشعَّث الأمر وانتشر؛ وأذكر أني حاولت الكلام مراراً،

فلم أسمع صوتي من اللغط؛ فجعلت قيادي في يد أولادي، ثم سَكَتُّ حتى نطق الجرس.

خرجت من الفصل أَمِيدُ من الهمِّ، وأجرُّ ذيلَ الفشلِ السابغ الضافي،

وفي نفسي أن أتركَ التعليمَ وهو حديثُ صباي، ومنتجع هواي إلى عمل آخر يصلح لي وأصلح له.. !

ولكني عُدْتُ إلى الفصل، ومضيت في التعليم، وكنت بعد شهرين اثنين مدرسَ الفصلِ الأخير ,وأستاذ الكلية الأول!!

فما الذي جعل من اليأس أملاً، ومن الفشل فوزاً، ومن الضعف قوة؟

اسمح لي أن أكون صريحاً فيما كان لي، كما كنت صريحاً فيما كان عليَّ.

أول درس : أسباب الوصول إلى النجاح

لقد التمست الوِصْلَةَ إلى النجاح في أسباب خمسةٍ كلها معلوم بالضرورة مؤيدٌ بالطبع، ولكن العلمَ غيرُ العمل، والرأي خلاف العزيمة، والتجربةَ وجودُ الفكرة وواقعُ الحقيقة:

1_ مواصلة الدرس وإدمان النظر:

فلم أترك كتاباً في المواد التي أدرِّسها حتى تقصَّيْتُه، أو أَلْمَمْتُ به، واستفدت منه،

وكان جدوى ذلك عليَّ وثوقَ الطلبة بما أقول، وظهورَ التجديد فيما أعمل، وتصريفَ الدرس وتنويعه على ما أحب.

ولن تجد أشفعَ للمدرس من سعة اطلاعه، وغزارة مادته.

2_ إعداد الدرس وأداؤه:

وكان يعنيني _ على الأخص _ ربطُه بالدروس السابقة، والسيرُ فيه مع الطلاب خطوةً خطوةً على الطريقة الاستنتاجية (inductive)

ثم تلخيصه بطريق الأسئلة؛ فكان من حسن إعداده أن مَلأْتُ الوقت كله به، فلم يعد فيه فراغ لِعَبَثِ عابثٍ، ولا تَجَنِّي سفيهٍ،

وجَرَرْتُ إليه أذهانَ الطلاب بالتشويق، والتطبيق، والسؤال؛ فلم يصبهم سأمٌ ولا ضِيْقٌ،

وشغلتهم به عن أنفسهم وعني؛ فلم يفرغوا لاصطياد نكتةٍ؛ ولا لالتماس غَمِيزَة.

وليس أعون على حفظ نظام الفصل مِنْ مَلءِ الوقت بالمفيد الممتع، ولا أضمنُ لجودة شرح المعلم وحسن استماع التلميذ من فهم الموضوع.

3_ مسايرة الترقي:

فلم أتشَبَّث بالقديم، ولم أتعصَّب للكتاب، ولم أُعْنَ إلا بما له قيمةٌ عملية؛ فالموضوعات منتزعة من حياة التلميذ وحال المجتمع،

والأمثلةُ مستنبطة من أساليب العصر ومواضعات أهله، والبحث حُرٌّ في حدود المنطق، يقوم على أساس التحليل والنقد والموازنة،

وفي تشابه الفكرةِ والنزعةِ، والغايةُ توثيقُ الصلةِ بين المعلم والمتعلم.

4_ حسن الخلق:

ولعمري ما يؤتى المُعَلِّم إلا من إغفاله هذه الجهة؛

فالادعاءُ، والتظاهرُ، والكبرياءُ، والتفاخرُ، والبذاءُ، والتنادرُ، والكذبُ، والتحيزُ، والكسلُ، والتدليسُ _ آفاتُ العلم، وبلايا المُعَلّم.

وما أسر النفسَ الشابةَ الحرةَ كالخلق الكريم، ولا يَسَّر تعليمَها وتقويمَها كالقدوة الحسنة.

ناهيك بما يتبع ذلك من جمال الأُحْدُوثة، واستفاضة الذكر، وهما يزيدان في قَدْر المعلم واعتباره، ويغنيان التلاميذ الجُدُد عن اختباره.

5_ قوة الحزم:

فكنت ألين في غير ضعف، وأشتد في غير عَسْف،

وأسير بالطالبِ إلى الواجب عن طريق ضميره وحسه، لا عن طريق تأنيبه وحبسه،

وأجعل رضاي عنه غايةَ ثوابِه، وسخطي عليه غايةَ عقابِه، وأَعِدُه الوَعْدَ فلا أَذْهَل عن تنجيزه،

وأحكم عليه الحكم فلا أَنْكُل عن تنفيذه، وأستعين على فهم عقليته ودرس نفسيته بإنشائه، فأعامله بما يوائمه، وأعالجه بالدواء الذي يلائمه.

كل ذلك يسعده طبع غالب، ورغبة حافزة، ومِرَانَةٌ طويلة،

وقدَر من الله جعلني أجد سعادتي وراحتي في الفصل وبين الطلاب أكثر مما أجدها في البيت وبين الأصحاب.

ولكن المعلمين _ وا أسفاه _ كما بدأهم الله يعودون! فليت شعري هل يكون الدرس الأخير في مبدإ مماتي، كما كان الدرس الأول في مبدإ حياتي؟

نهاية المقال :

أول درس ألقيته للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات

الهامش

(2) بأى: هي بلهجة إخواننا المصريين العامية بمعنى: إذن، أو نحوها (م).

#اسماء_مقالات_مميزة

#مقالات_في_التربية_والتعليم

#أحمد_حسن_الزيات

اسماء مقالات مميزة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية المجموعة الثانية

اقرآ الكتاب على موقع المكتبة العربية الكبرى

Exit mobile version