جراح سبايكر وضماد برهم
ثامر الحجامي
ترك زوجته حاملا في طفلهما الأول، بعد أن جاءه إبلاغ بوجوب الإلتحاق الى عمله الجديد.. جنديا في الحرس الوطني العراقي.. سارع للملمة أغراضه وتوديع والديه، وسبق شروق الشمس في النهوض، والإلتحاق الى محل عمله.. قاعدة سبايكر.
بعد خمس سنوات؛ ماتت الأم حزنا وكمدا على فقدانها أبنها البكر، ووالده أبيضت عيناه حزنا، وأصبح ضريرا ينتظر عطف من ينهضه من فراشه ويجلسه بباب الدار، عله يسمع خبرا عن عن ولده المفقود.
الزوجة أنجبت بنتا جميلة، تجاوز عمرها أربع سنوات، لكنها الى اليوم لم تلفظ كلمة ” بابا “.. وكأن القدر أراد أن يحرمها منها، قبل أن تعرف معناها.. وتعيش محرومة من أكتاف تحملها، وأياد تلاعبها في الهواء، وصوت جهوري يناديها بإسمها.
طال الغياب وصعبت الحياة على الزوجة اليتيمة من الوالدين والزوج، وتقدم لخطبتها شاب آخر وافق الجميع عليه لأخلاقه الطيبة، وأنه سيكون أمينا على هذه العائلة المحرومة، وتحدد موعد العرس ليلة العيد، ولكن قبل يوم جاءهم إتصال من دائرة الطب العدلي يبلغهم أنه ظهر تطابق فحوصات ال DNA وتم التعرف على جثة المفقود!
بعد حدوث الفاجعة، وتناهش الذئاب تلك الأجساد العارية، وتحول دجلة الى نهر من الدماء، وإرتكاب الأوباش لجريمة يندى لها جبين الإنسانية، وقفت تلك المرأة العراقية أمام بعض قادة البلاد ورمت ” عصابتها” عليهم طالبة منهم إحضار جثة ولدها، لم يتمكن أحد من الحاضرين تلبية طلب تلك ” الحرة ” وكأنهم صم بكم، عمي.. لا يفقهون.
البعض خرج محاولا التقليل من هول الجريمة، مدعيا أن عدد الضحايا 175 شهيدا، بعد سنين رأينا من ينفي ذلك وهو يقف أمام لافتة كبيرة مكتوب عليها رقم 1700 شهيدا، بينما حاول البعض إستخدام الفجيعة لإغراض المزايدات السياسية، والتلاعب بعواطف ومشاعر ذوي الضحايا، دون أن يقدم شيئا ملموسا يخفف من هول الصدمة.
سنين مرت وذوي الضحايا ينتظرون من يمد يده ليداوي جراحهم، فالآباء والأمهات فقدوا أبناءهم، والزوجات فقدن أزواجهم، والأبناء أصبحوا يتامى بفقد آبائهم، ولم ينالوا من المعنيين أي إهتمام سوى وضع صور الشهداء في الجزرات الوسطية للشوارع، أو إقامة مجلس عزاء في أحد موقع الجريمة!
تبنى رئيس الجمهورية برهم صالح، أول مشروع قانون بشإن جريمة سبايكر، لغرض إحتسابهم شهداء.. وتمكين أهاليهم من التمتع بحقوقهم المشروعة، وهي خطوة تحمل دلالات كثيرة، أولها الظلم الكبير الذي تعرضت له هذه القضية ومحاولة طمسها، لكنها بهذا القانون ستبقى حاضرة في سجلات التاريخ الذي سيحكي تفاصيل ما حصل.
أثبت السيد صالح أن منصب رئاسة الجمهورية ليس تشريفيا، بل يمكن أن يكون له دور كبير في القضايا التي تمس هموم المواطنين وحاجاتهم، وأن تأخير حسم ملفات قضية سبايكر كان بسبب العوق في العقول والفشل في التعامل مع القضايا المهمة وليس في المنصب، ومن يملك الإرادة في تقديم المشاريع التي تراعي مصلحة المواطن فإن بإمكانه ذلك.
لقد كانت إبتسامة برهم صالح التي استقبل بها عوائل الضحايا، بلسما خفف به همومهم طوال السنين الماضية، وبتقديمه قانون ” سبايكر ” الى البرلمان للمصادقة عليه، كان الضماد لجراح الضحايا.. او على الأقل محاولة صادقة لذلك.