Site icon حديقة المقالات

روح السماحة للأستاذ أحمد أمين

روح السماحة

روح السماحة لـ #الأستاذ_أحمد_أمين مقال عن خلق التسامح وبث روح  السماحة والحث عليه خصوصاً في المجتمعات العربية وأهمية كون الرجل واسع الصدر لمن هم حوله والابتعاد عن التعالي و السخرية ، جاء المقال في ٨٤٨ كلمة و ١٩ فقرة يتطلب من الوقت للقراءة الصامتة ٤ دقائق ونصف

قرأت اليوم وصفاً لناد في واشنطن إذا ترجمنا اسمه إلى العربية سمَّيناه نادي السفود (١)

عدد أعضائه خمسون يُختارون على أساس مراكزهم الاجتماعية، ومقدرتهم الصحافية، ومهارتهم التهكمية.

ولهذا النادي تقاليد؛ فالأعضاء يلبسون في الاجتماع الفراك وربطة الرقبة البيضاء،

ولهم شارة هي عبارة عن صورة سفود تعلق على السترة، فيعلم أن صاحبها عظيم من العظماء؛ إذ كان عضواً في هذا النادي.

وعمر النادي الآن خمس وستون سنة، يقيم أعضاؤه حفلتين كل عام، إحداهما في إبريل، والأخرى في ديسمبر،

وفي كل حفلة يدعى رئيس الجمهورية، ورئيس الحزب المعارض، وكبار موظفي الدولة،

وقد لبى الدعوة رؤساء الجمهورية جميعاً، ما عدا الرئيس كليفلاند.

وفي كل اجتماع يعد برنامج حافل يشتمل على نقد الرئيس ورئيس المعارضة وكبار الموظفين نقداً تهكمياً لاذعاً،

واستعراض المشاكل التي تشغل بالهم، وتشغل الرأي العام، وكيف تصرف فيها هؤلاء الكبار،

ثم وضع ذلك كله في قالب فكه ساخر،

وبعد أن ينتهي هذا البرنامج الذي يُشْوى فيه هؤلاء الكبار على السفود يقف رئيس الجمهورية ورئيس الحزب المعارض،

فيخطب كلٌّ منهما عشر دقائق شاكراً للنادي تهكمه، مقابلاً السخرية بالسخرية، والتهكم بالتهكم، واللذع باللذع.

وبذلك ينتهي الاحتفال بعد أن يكونوا قد عرضوا للمشاكل والرؤساء من الجانب التهكمي، فأبانوا مثلاً كيف كبَّر هؤلاء الكبار صغار الأمور،

وعدوها مشاكل عظمى وهي في ذاتها تافهة، وكيف تصرفوا فيها تصرفات مدوية،

وكان يمكن أن يتصرف فيها على أبسط وجه وأخصر طريق، وكل ذلك في ثنايا الضحك اللطيف، والتهزيء الطريف.

ويقول أحد رؤساء الجمهورية في مذكراته:يزودنا نادي السفود بقدر كبير من المرح،

وقد روضت نفسي على الابتسامة العريضة من النكات اللاذعة التي تقال عني،

ويغريني على ذلك علمي أن كل رئيس غيري _ مهما بلغت منزلته _ سيلقى ما لقيت في سبيل المرح في هذا المساء.

تقييم الطلاب لأساتذتهم

وقد حدثني من تخرج من جامعة أمريكية أنه فوجئ آخر العام الدراسي بورقة وزعت عليه وعلى سائر الفصل،

تسأله فيها الجامعة عن رأيه في الأستاذ فلان من حيث كفايته العلمية ومن حيث طريقة تدريسه، ومن حيث معاملته الطلبة…. إلخ،

والطلبة يجيبون في صراحة من غير ذكر أسمائهم، والجامعة والأساتذة يتقبلون هذا في سماحة.

هذا ما أسميه روح السماحة ، وهي روح لا يمكن أن تسود في أمة إلا إذا ربي الأفراد فيها على الديمقراطية الحقة(٢)،

فلكلٍّ شخصيته، ولكلٍّ رأيه، ولكلٍّ أن ينقد ما يشاء، ومن يشاء، وعلى المنقود أن يكون واسع الصدر في سماع النقد.

ولكن على الناقد _ أيضاً _ أن يكون لديه من حسن التقدير، ودقة الذوق، ما يصوغ به نقده في أسلوب مؤدب،

ولذلك عرف أعضاء نادي السفود بأنهم يستطيعون أن يمزجوا الفكاهة والسخرية بالرزانة والذوق السليم.

وليست تستطيع أمة أن تعتنق =روح السماحة+ إلا إذا عودت سعة الأفق، وعدم التزمُّت،

واحترام الفرد رأيَ غيره، كما يحترم رأيَ الآخرين، وإيمانه بأن رأيه _ وإن ظهر له صوابه _ قد يكون خطأ، ورأي غيره _ وإن ظهر خطؤه _ قد يكون صواباً،

وإن من الصعب رؤيةَ الحق من جميع زواياه، فليس يرى الفرد الحق إلا من زاوية واحدة، وقد يراه الآخر من زاوية أخرى،

ومن أجل ذلك فهو واسع الصدر للنقد، مقدر للناقد، محترم له؛ لأنه يزيده في رأيه ثروة.

أما المتعصب فضيق النظر، شديد الحقد على مخالفه، سادٌّ سمعه، ومغمضٌ بصره عن أي حجة لخصمه،

لا يرى إلا أن تسير الدنيا على رأيه، وإلا استحقت الخراب؛ ولذلك كان فاقداً لروح الفكاهة، لا تصدر عنه،

ولا يستسيغها من غيره؛ لأن روح الفكاهة وروح السماحة منزلة أسمى من منزلته.

في الأدب العربي كثير من الشعر والأخبار التي تمثل روح السماحة، كالذي يروى عن الأحنف بن قيس، ومعن بن زائدة وغيرهما،

يُنْقَدون فيحلِمون، ويُتَهَكَّم عليهم فيسمحون، ويقابلون السخرية بالابتسامة، ولكن لسنا الآن بصدد أفراد، وإنما نحن بصدد روح عامة في الأمة.

الأمم العربية و روح السماحة

والحق أن الأمم العربية اليوم في أشد الحاجة إلى روح السماحة،

فهي تقربهم إلى التفاهم، وتبعدهم عن التقاطع، نحن أحوج إليه في علاقة الحاكم بالمحكوم؛

فالمحكوم ينفس عن نفسه بنقد ما لا يستصوبه من أعمال الحاكم، ولكنه نقد مؤدب،

وقد يكون فكهاً فرحاً، وقد يكون فيه سخرية لطيفة، أو نكتة رائعة،

والحاكم من جانبه واسع الصدر لسماع النقد، سمح في قبوله، يجيب عن نقده في رزانة،

وقد يقابل التهكم بالتهكم، والسخرية بالسخرية، وروح الجميع سليمة من الحقد، لا تنطوي على الشر،

وقد فرج ذلك كله على الحاكم والمحكوم، فبينهما _ برغم النقد والسخرية _ صفاء متبادل.

ونحن في حاجة كذلك إلى روح السماحة في العلاقة بين الدول العربية والشعوب العربية بعضها وبعض،

ولو سادت هذه الروح ما رأيت ما يحدث بينها كل حين من سباب وغضب، وتهديد بقطع العلاقات، وسد الطرق، وانسحاب من الجامعة العربية، وما إلى ذلك،

فمثل هذه الأمور كلها مظهر من مظاهر فقدان روح السماحة ودليل على ضيق العطن، والانطواء على الحقد والضغينة، أو العزة الكاذبة.

لَكَمْ نرى في التاريخ الماضي وفي الحاضر من أزمات حادة، عولجت بكلمة سمحة فرجت الأزمة،

أو نكتة بارعة أعادت إلى النفوس صفاءها، أو احتمال الرئيس للنقد اللاذع تحقيقاً للمصلحة العامة.

إن روح السماحة هي أشبه ما تكون بالروح الرياضية، يلعب اللاعبون في ميدان اللعب،

فيتبارون ويتسابقون، ولكن لا يحملون حقداً، ولا ينطوون على ضغينة،

فإذا انتهى اللعب وضع المغلوب يده في يد الغالب مهنئاً له، وخرجوا جميعاً من الميدان بنفوس صافية وقلوب راضية.

يحكون أن المهدي أراد أن يغزو أهل الشام لخطأ ارتكبوه،

فقال لهابن خريم: يا أمير المؤمنين، عليك بالعفو والتجاوز عن المسيء؛ فلأن تطيعك العرب طاعة محبة خير لك من أن تطيعك طاعة خوف.

الهوامش

(١) فيض الخاطر، 8/134 _ 137.

(٢) السفود: هو الحديدة التي يشوى عليها اللحم.

(٣) لو قال: الحرية الحقة(م).

#اسماء_مقالات_مميزة

#مقالات_في_المشاعر_والعواطف_الإنسانية

#الأستاذ_أحمد_أمين

اقرآ الكتاب على موقع المكتبة العربية الكبرى

 

Exit mobile version