من غزل الفقهاء 5
علي الطنطاوي
وهاك القاضي سوار (الأصغر) بن عبد الله من أهل القرن الثالث الذي يقول:ـ
سلبـت عظامي لحمهـا فتركتهـا * * * عـوارى في أجلادهـا تتكسـر
وأخليـت منهـا مخّهـا فكـأنهـا * * * أنابيب في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعـت باسم الفـراق ترعّدت * * * مفاصلها من هـول ما تتحـذر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري * * * بلى جسـدي لكنني أتستـر !
وليس الذي يجري من العين ماءها * * * ولكنهـا روح تـذوب فتقطـر
وهاك قاضي القضاة ابن خلكان المشهور، وكان يعشق ابن الملك المسعود بن المظفر، وكان قد تيمه حبه، قال القاضي التبريزي: كنت عنده في العادلية (دار المجمع العلمي اليوم) في بعض الليالي، فلما انصرف الناس من عنده قال لي: نم أنت ههنا. وألقى علي فروة، وقام يدور حول البركة، ويكرر هذين البيتين إلى أن أصبحنا فتوضأنا وصلينا، والبيتان هما:ـ
أنـا والله هـالـك * * * آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي * * * قد أقامت قيـامتي
ولما فشا أمره، منع الملك ابنه من الركوب، فاشتد ذلك على ابن خلكان، فكان مما قال:ـ
إن لم تجودوا بالوصـال تعطفاً * * * ورأيتـم هجـري وفـرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى * * * يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيـبي ما الذي * * * ألقـاه من كمـد إذا لم تركـب
لرحمتني ورثيـت لي من حالة * * * لولاك لم يك حملهـا من مذهبي
ومن البـلـيـة والرزية أنني * * * أقضي ولا تدري الذي قد حل بي*
قسماً بوجهك وهو بـدر طالع * * * وبـلـيـل طرَّتك التي كالغيهـب
لو لم أكن في رتبـة أرعى لها * * * العهـد القديـم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذ لي * * * خلـع العـذار ولو ألـح مؤنبي
لكن خشيـت بأن يقول عواذلي * * * قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي
ـ((*بل البلية والله أن يكون قاضيا ويعشق الغلمان، هذا مع الثقة بدينه، وأنه لا يطلب حراما ولا يأتيه مختارا -غفر له الله))ـ
فارحم فديتك حرقة قد قاربت * * * كشف القناع بحق ذِيَّاك النبي
لا تفضحن بحبك الصبَّ الذي * * * جرعته في الحب أكدر مشرب
وله فيه شعر كثير جدا.ـ
ومن شعر محمد بن داوود الظاهري، مؤلف كتاب (الزهرة) في الحب، وكان فقيها على مذهب أبيه داوود وكان شاعرا:ـ
أنزه في روض المحاسن مقلتي * * * وأمنع نفسي أن تنال محرمـا
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه * * * يصب على الصخر الأصم تهدما
ومن شعر أبي الفضل الحصكفي الفقيه الشافعي:ـ
أشكو إلى الله من نارين: واحـدة * * * في وجنتيه وأخرى منه في كبدي
ومن سقامين: سقم قد أحـل دمي * * * من الجفون وسقم حل في جسدي
ومن نمومين: دمعي حين أذكـره * * * يذيع سري وواش منه بالرصـد
ومن ضعيفين: صبري حين أبصره * * * ووده ويـراه النـاس طوع يدي
ولو ابتغيت الاستقصاء، وتتبعت المراجع، لجمعت من غزل الفقهاء كتابا، فأين هذا مما يزعمون أن الفقهاء كرهوا الشعر، وتنزهوا عنه؟
أما إنها لم تفل ألسنة علمائنا، ولم تكل أقلامهم، ولم تخفت أصواتهم، إلا حين أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب، وحقروا الشعر… فهل لعلمائنا عودة إلى ما هم أخلق به، وأدنى إليه، وأقدر لو أرادوه عليه؟! مع الديانة والصيانة وأنهم (يقولون ما لا يفعلون) وما لا يدفع إلى ما يأباه الدين.ـ
من كتاب من غزل الفقهاء
للشيخ #علي_الطنطاوي