لغة الضاد لمحمد صادق عنبر
لغة الضاد (1) لمحمد صادق عنبر
أغنى اللغات السامية مادة، وأعذبها سحر بيان، وأرقها حاشية تبيان.
نزلت على ألسنة العرب، فجرت على ألسنتها سحراً كلُّ سحر غيره باطل، ولا بدع فكل بلد هي حلٌّ به بابل.
أجل، لقد انقطعت ألسنة من منابتها، واجتثت لغات من أصولها، فلم يبق منها إلا آثار تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد،
وتلك اللغة تدور مع الفلك: لا يُخْلِقُ ديباجتَها هرمٌ، ولا يُلِمُّ بها قدم.
وآية لها أنك ترى كيف عجز السيف على سعة الزمن أن يحول أمة عن لغتها،
وقد استطاعت _ ولم تجرد سيفاً _ أن تشق لها طريقاً إلى ألسنة أعيا على غيرها علاجُها،
وتقتحم العقبات إلى قلوب كان محكماً عليها رِتَاجُها(2)؛
فكأنها كانت ديناً لفطرة الألسنة لتكون بعد ذلك لساناً لدين الفطرة،
ولا عجب إذا قَدِرتْ أن تصبغ كل بلد حَلّتْ به صِبْغَةً عربيةً إذ قالت لكل شيء: كن منذ الآن، فكان عربياً.
دخلت لغة القرآن الكريم كثيراً من بقاع الأرض، فما هي إلا فترة يبلغ الصبي في دونها الحلم حتى استتب لها الأمر فيها،
وكانت كأنها محورٌ دارَ عليه التاريخ دورة أخرى ترى أين كانت العربية، ثم أين بلغت؟
لقد كانت بدأةً تطوف بأركان تلك الجزيرة الجرداء على صفة ما كانت تأخذه أعين الناطقين بها من الفَدْفَد الوعر، والمَهْمَهِ القفر،
ومن الفحل إذا هدر، والليث إذا زأر، والحمامة إذا سجعت، والناقة إذا ضبغت، والريح إذا لفحت، والسماء إذا ضنَّت،
والأرض إذا حرَّت، والمكارم إذا هزَّت، والخيل إذا استنت، والأسنة إذا اشتجرت،
ونحو هذا مما هو بتلك البادية أشبه وأمثل.
نعم، كان هنالك مطاف اللغة في بادئ أمرها، ولكنها من سماء تلك البادية الناطقة الخرساء قد استمدت ذلك الخيال الذي يريك من الورد الذابل خدَّاً نديَّاً،
ومن الغصن المائل قدَّاً عادلاً سمهريَّاً.
سمو الخيال:
ثم سما ذلك الخيال الذي كان كأنه يواثب النجوم فلم يدع تشبيهاً بليغاً إلا وقع من ورائه،
ولا فنَّاً من فنون القول إلا بلغ الغاية من الافتنان فيه، ولم يذر معنىً دقيقاً إلا أحكم تصويره، حتى بذَّت العربية اللغات على بكرة أبيها.
لقد وسعت اللغة العربية ما تضيق ببيانه هذه الأوراق فكانت وما فتئت تساير كل آخذ بِحُجْزَتِها إلى كل غرض يمشي إليه،
فلم تضق ذرعاً باصطلاح، ولا برمت بالكشف عن معنى، ولا نشزت على قلم غَذَتْهُ بِلَبانها، ولا وقع بها العِيُّ دون حاجة، فلم تنهض ببيانها.
أما أين بلغت، فكل مبلغ؛ فقد تسربت بين العصا ولحائها، وتغلغلت بين الذَّرة وأجزائها،
ومادَّت العلمَ حَبْلَها وقد ظلَّ ما بينه وبينها مبلولاً؛ فلم ييبس إلا حقباً معدودات؛
فقد وسعت معارف الدهر كلها، ولا تزال آثار العرب حجة لهم، ولعربيتهم ناهضة لم تقعد بها الأيام.
ألا إن العربية التي نبتت في تلك البيداء قد مدَّت ظلها على العلم كله،
وذلك العربي الذي حيَّ حياته الأولى في منقطع من الأرض إذا سافرت فيه عيناه ففي صميم القفر،
وإذا وقفنا به فعلى أديم الصخر، قد مشى بلغته مدىً بعيداً في أمد قريب.
فسلام على ذلك العهد النضير، وسلام على تلك البادية التي نبتت فيها أمة المجد والبيان، وسلام على هذه اللغة الخالدة على فناء الزمان.
نهاية المقال : لغة الضاد
#المقالات_المختارة
#مقالات_في_اللغة_والأدب
#محمد_صادق_عنبر
الهوامش
____________________
(1) الحديقة 7/ 150_ 154، عام 1349هـ
(1) الرتاج: القُفل.(م)