Site icon حديقة المقالات

الاقتباس في أساليب الشيخ علي الطنطاوي – دراسة تحليلية 13\3

أساليب الشيخ علي الطنطاوي

دراسة تحليلية

بقلم : عبدالعظيم بدران

الاقتباس

يعرف الاقتباس بأنه تضمين الكلام شيئًا من القرآن أو الحديث، وذلك على وجهٍ لا يكون فيهِ إشعارٌ بأنهُ مأْخوذٌ من أحدهما. وهو ضربان: أحدهما ما لم يُخرَج فيهِ المُقتبَس عن معناهُ الأصليّ، والثاني ما أُخرِج فيهِ عن معناهُ الأصليّ. ولا بأْس أن يقع في اللفظ المقتبس تغييرٌ يسيرٌ للضرورة. ويقرب من الاقتباس التلميحُ، غير أن الاقتباس يكون بجملة الألفاظ أو بأكثرها، والتلميح يكون بألفاظٍ يسيرة يُشَار بها إلى قصةٍ معلومةٍ أو بيتٍ مشهورٍ أو مَثَلٍ سائرٍ. والاقتباس لا يكون إلا من القرآن أو الحديث أو من قواعد بعض العلوم. والتلميح لا يُقيَّد بشيءٍ من ذلك، فيكون مما ذُكِر ومن غيرهِ مطلقًا[35].

ولقد اقتبس “علي” من القرآن والحديث، ولمَّح من الشعر والحكمة والمثل الفصيح والعامي، وقلما لمَّح من كلام غيره من سابقيه أو معاصريه. وكان أحيانا يأخذ الألفاظ ذاتها، وأخرى يأخذ المعنى ويعيد صياغته، وهو ما أطلق عليه ابن منظور في كلامه السابق “العَقْد”. وقد أتى أديبنا بهذه”المقتبسات” – في الغالب – في سياق موفق، ولم يتكلفها تكلفا، ولا حشرها في غير مواضعها.

اقتباسه من القرآن الكريم:

من ذلك ما كتبه تعليقا على آثار بعض المعارك التي أثرت فيه حين كان صغيرا، وفي بلده حينئذ، يقول:

“ذلك لتعلموا أن حياة الإنسان لا تقاس بطول السنين بل بعرض الأحداث”[36]. وهو يقتبس هنا من قول الله تعالى: ﴿ جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[37].

ومن ذلك أيضا قوله:

“هل أتاكم نبأ من في أطراف اليمن…”. وهو مقتبس من قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ﴾[38].

ومنه: “يؤذيني منه تهاونه بأمر دينه وكلامه عن شرب الخمر كأنه يتكلم عن شرب الشاي، وسواء لدي أشربها أم كان على طريقة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون”[39]. وهو هنا يتحدث عن طريقة المازني وأسلوبه في الكتابة، ويقتبس من قول الله تعالى: ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾[40].

ومما اقتبسه من أسلوب الآيات في التعبير قوله:

“أيها الشريف عدنان، لا تغتر، وقد ورثنا القصر وورثت القبر، وهدمنا ما بنيت وبنينا ما هدمت، وما هدمتَ – إذ هدمت – إلا مجدك في التاريخ، وأجرَك في الآخرة!”. ويقصد الطنطاوي بالشريف عدنان هنا: أتاتورك. وقد اقتبس هنا أسلوب الآية القرآنية ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ﴾، دون معناها[41].

ومما اقتبسه باللفظ القريب، والمعنى، قوله:

“الإنكليز الذين صكت وجوههم نعالُ المسلمين في بور سعيد”[42]. وقد اقتبس “علي” هنا من الآية الكريمة ﴿ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾، لكنه تحول عن معنى الصك الوارد في الآية من كونه حركة خفيفة تضرب بها المرأة وجهها بيدها كما تفعل النساء عند الاستغراب والمفاجأة[43]، إلى ضرب موجع ورادع حين غيَّر أداة الصك وجعلها نعال المسلمين.

اقتباسه من الحديث الشريف:

ومما اقتبسه من الحديث النبوي – بالمعنى – قوله:

“إن نساءنا خير نساء الأرض، وأوفاهن لزوج، وأحناهن على ولد، وأشرفهن نفسًا، وأطهرهن ذيلاً، وأكثرهن طاعةً وامتثالاً وقبولاً لكل نصح نافعٍ وتوجيهٍ سديد”[44]. وقد اقتبس الطنطاوي بعض معانيه هنا من الحديث الشريف:”خير نساء ركبن الإبل صوالح نساء قريش: أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده”[45].

تلميحه من الشعر:

ومما لمح به من الشعر معبرا عن صبره على أذى ناقديه:

“عرف الناس من أحاديثي في الإذاعة أو الرائي أني أقرأ أشنع السب لي وأنا هادئ لا تتحرك من الغضب شعرة في جسدي؛ لأني لكثرة ما كتب عني: تعودت مس الضر حتى ألفته”[46]. وقد أحسن هنا في اختيار تلميحه إذ اختصر عليه الكلام وأوضح ما يريده من البيان.

تلميحه من الأمثال:

ومما لمح به من أمثال العرب قوله:

“يا موسوليني إنا لا نشمت، وما الشماتة سجيةً فينا، ولكنا ندل على مكان العبرة فيك حين نلت جزاءك. لقد أوكت يداك ونفخ فوك، فغرقت، فالحمد لله الذي أنقذ الأرض منك، وأقر بك عيون من ظلمت، وأرانا فيك هذا اليوم الأسود”[47]. وتلميحه هنا إلى المثل المشهور “يداك أوكتا وفوك نفخ”. وهو يُضرب لمن يجني على نفسه[48].

ومما لمح فيه بمعنى المثل قوله:

“اخترنا الأخ العالم الأديب إبراهيم سرسيق، فسمع مني ونقل عني، وكتب حلقتين أحسن فيهما وأجمل، ولكن لا يحك جسمَك مثلُ ظفرك، فكان من فضله علي أن أعاد بعض نشاطي إلي فبدأت أكتب”[49]. وقد اشتهر المثل بقولهم: ما حك جلدك مثل ظفرك[50]. ويبدو حسن تخلص الطنطاوي – الأسلوبي – في الجملة الأخيرة واضحا، حين قال: “فكان من فضله عليَّ أن أعاد بعض نشاطي إليَّ…”، وهو من فطنة أديبنا في حسن التعبير عن مواقفه مع بعض الشخصيات دون إحراجهم، وهي ظاهرة في أسلوب الطنطاوي، وخاصة عند ذكره بعض مواقفه مع شخصيات محترمة ومرموقة، حتى وإن حدث في هذه المواقف شيء من الإحراج بينهما.

ومما لمح به بألفاظ المثل كما هي قوله:

“الإنكليز في الطيش كالفرنسيين، وإذا هما كحماري العبادي في المثل القديم، قيل له: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا”[51]. والمثل يضرب في خلتين إحداهما شر من الأخرى، وقد أحسن الطنطاوي التلميح منه في مقام حديثه عن المحتلين.

وهكذا ينجح الطنطاوي في تطويع اقتباساته وتلميحاته، ويحسن توظيفها في خدمة ما يبغيه توصيله من معانٍ، ليجعل من أسلوبه معرضا رائقا وكثيفا في الوقت ذاته، يسر به قارئه حين يفيده كذلك

الهامش

[35] – انظر: لسان العرب، لابن منظور، مادة قبس. والتعريفات للجرجاني صفحة 49. والتعاريف للمناوي، صفحة 81.

[36] – ذكريات، علي الطنطاوي، 1/66.

[37] – سورة المائدة، آية 97.

[38] – هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص152. والاقتباس من سورة ص، آية رقم 21.

[39] – ذكريات، علي الطنطاوي، 3/27.

[40] – سورة الشعراء، الآيات 224-227.

[41] – من نفحات الحرم، علي الطنطاوي، ص71. والآية من سورة الأنفال رقم (17).

[42] – هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص152.

[43] – انظر في ذلك على سبيل المثال: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/300. والآية من سورة الذاريات، رقم 29.

[44] – مجلة الأدب الإسلامي، 9/95، مقالة “زوجتي”.

[45] – رواه أحمد والبخاري ومسلم.

[46] – ذكريات، علي الطنطاوي، 2/45، وهو شطر بيت من الشعر تكملته: وأسلمني حب العزاء إلى الصبر. قاله أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو. معجم الأدباء لياقوت الحموي 3/437. و”جمهرة الأمثال” لأبي هلال العسكري ص185.

[47] – هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص151.

[48] – انظر المثل في: مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، 2/414. قال المفضل: أصله أن رجلا كان في جزيرة من جزائر البحر فأراد أن يعبر على زق نفخ فيه فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط البحر خرجت منه الريح فغرق فلما غشيه الموت استغاث برجل فقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ.

[49] – ذكريات، علي الطنطاوي، 1/5.

[50] – هذا المثل ذكره الأبشيهي على أنه من أمثال العرب. انظر: “المستطرف في كل فن مستظرف”، لشهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي، تحقيق: د. مفيد محمد قميحة، 1/70. ونظمه الإمام الشافعي رضي الله عنه حين قال:

ما حك جلدك مثل ظفرك  فتول أنت جميع أمرك  وإذا قصدت لحاجة  فاقصد لمعترف بفضلك 

انظر: ديوان الإمام الشافعي، تدقيق محيي الدين سليمة. ط1، دمشق، دار الثقافة للجميع، 2003.

[51] – هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص152. يقول صاحب مجمع الأمثال: قالوا: العباد قوم من أفناء العرب نزلوا الحيرة وكانوا نصارى منهم عدي بن زيد العبادي قالوا كان لعبادي حماران فقيل له أي حماريك شر قال هذا ثم هذا. ويروى أنه قال حين سئل عنهما هذا هذا أي لا فضل لأحدهما على الآخر. انظر: مجمع الأمثال للميداني 2/161.

المصدر

فهرس البحث

Exit mobile version