الابتهاج بالحياة مقال للأستاذ الأديب أحمد أمين رحمه الله تناول فيه حال الحياة عند الإنسان بين الابتهاج و السرور وبين الحزن والاكتئاب و أسباب انطباع كل منها على الناس وكيفية الارتقاء بـ الذوق في تعامل الناس مع بعضهم في البيت الواحد
المقال من 1708 كلمة و103 فقرة يستغرق 9 دقائق و 13 ثانية للقراءة الصامتة
الابتهاج بالحياة للأستاذ أحمد أمين
الابتهاج بالحياة (1) لـ #الأستاذ_أحمد_أمين
لقد أكثرت في أحاديثي الماضية عن متاعب الحياة فلأحدثكم اليوم عن الابتهاج بالحياة.
والحق أنَّا لو قارنا بين الغربيين والشرقيين لوجدنا أن الشرقيين تغلب عليهم طبيعة الحزن والاكتئاب.
وهذا ما يلاحظه الغربيون على الطلبة الشرقيين الذين يتعلمون عندهم، وهذا _أيضاً_ ما نلاحظه نحن على أنفسنا،
فنحن إذا حدث ما يستوجب الحزن أفرطنا فيه كما يحدث في الوفيات؛ نبالغ في البكاء على الميت، وننغص حياتنا لفقده مدة طويلة،
ونقيم التقاليد الكثيرة من مآتم وأخمسة وأربعين، وحفلات تأبين ونحو ذلك.
وكذلك نبالغ في الحزن في النكبات كالحزن عند الأمراض، والحزن عند خسارة مالية، ونحو ذلك.
وكثير منا إذا لم يجد سبباً من أسباب الحزن أوجده؛ فهو وأهله في صحة، وعندهم من المال ما يكفيهم، ودنياهم سائرة على ما يرام،
ولكنهم مع ذلك يخلقون أسباب الحزن خَلْقاً؛ فيحملون همَّ المستقبل، وماذا سيكون فيه؟ أو يتنازعون على شيء تافه؛ فيحزنون من أجله.
وعلى كل حال فطبيعتنا يغلب عليها الحزن،
ومن فرح بالحياة وابتهج بها فابتهاج قليل يعقبه حزن طويل، أو إفراط في مباهج الحياة يسبب تنغيصاً، وحزناً، وألماً يعقبه أضعاف ما ناله من فرح وابتهاج.
ولعل السبب في انتشار طابع الحزن علينا يرجع إلى أمور كثيرة،
أهمها ما مضى على الشرق من عصور كان فيها ظلم الحكام شديداً قاسياً أمات روح الناس، وقلل من ابتهاجهم.
وتلا هذا الاستعمار وما فيه من ظلم، واستغلال، وضغط على الحرية جعل الناس يألمون ويكتمون ألمهم،
والألم المكتوم أفعل في النفس من الألم الظاهر.
الحياة في الشرق تسودها الفوضى
وهناك سبب آخر وهو أن الحياة في الشرق تسودها الفوضى، وعدم النظام، والفوضى في الحياة تسبب المتاعب والألم؛
فإذا كان البيت فوضى تعب أفراد الأسرة، وإذا كانت الوظائف فوضى تعب الموظفون،
وإذا كان الترام والسيارات فوضى تعب الراكبون، وإذا كان الطباخون وقائدوا السيارات والخدم لا يسيرون في حياتهم على نمط معقول تعب من يعاملهم، وهكذا…
فالإنسان في استمرار يعامل طائفة كبيرة من أفراد المجتمع، فإذا لم تنتظم الحياة معهم سببت الألم والمتاعب، وهيجت الأعصاب، وأورثت الحزن، وهكذا…
والحياة فن من الفنون فإذا ضاع فن الحياة ضاع السرور بها، بل إن السرور بالحياة نفسه فن من الفنون،
ويخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية، فيشترط لأجل أن يكون مسروراً مالاً وبنين وصحة ونحو ذلك.
فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم ومنهم من ينعم في الشقاء،
ومن الناس من لا يستطيع أن يشتري ساعة سعيدة ضاحكة مستبشرة بأغلى الأثمان،
ومنهم من يستطيع أن يشتريها بأتفه الأثمان، وذلك لاختلافهم في الطبع والمزاج.
إننا نحتاج للابتهاج بالحياة إلى شيئين هامين: أولهما تنظيم الحياة في أنفسنا وفي مَنْ حولنا؛
فالبيت إذا نُظِّم _ أعني نُظِّمت ميزانيتُه، ونظمت حياةُ صغاره وكباره، ونظمت العلاقة بين الزوجين،
وبينهما وبين الأولاد_ كان أهله أقربَ إلى الابتهاج بالحياة.
والموظف إذا نظمت مصلحته، أعني حسنت علاقته بينه وبين رؤسائه ومرؤوسيه كان أهدأَ بالاً، وأسعدَ حالاً.
وكذلك كل ما يتعلق بالإنسان من شؤون إذا نظمت كانت مبعث سعادة وابتهاج.
والأمر الثاني الشجاعة؛ فكثيراً ما يكون سبب الحزن فقدان الشجاعة، يخاف الإنسان من الموت، ويخاف من الفقر،
ويخاف أن تنزل به كارثة، ويخاف من المستقبل، ويخاف أن يفشل في عمله؛ فهذا الخوف كله ينغص عليه حياته، ويجعله منقبضاً غير مبتهج.
عدم تنظيم أسباب السرور
وسبب آخر وهو عدم تنظيم أسباب السرور، وهذا أمر يحتاج إلى مهارة، فالزوج أو الزوجة في البيت إذا مَهَرا في خلق أسباب السرور جعلا البيت جنة،
ونحن تنقصنا هذه المهارة في خلق السرور مع مهارتنا الكبرى في خلق المنغصات؛ فاجتماعات المنزل كثيراً ما تنتهي بنزاع،
حتى الملاهي العامة كثيراً منها لا يرضي الذوق السليم ولا الفن الرفيع، وكثيراً ما تكون تافهة لا يجملها فن،
ولا يرقيها ذوق، ومن أجل هذا كان أشد الناس بؤساً في الحياة هنا من رقي ذوقه، ونبلت نفسه.
إن الناس يختلفون في قدرتهم على الابتهاج بالحياة اختلاف المصابيح الكهربائية، فمنها مصباح محترق لا ضوء فيه،
ومنها مصباح يضيء بقوة عشر شمعات، أو خمس عشرة، أو عشرين أو مائة أو مائتين، وهكذا الناس طبيعة منيرة مضيئة مشرقة،
وطبيعية حزينة أسيفة مكتئبة مظلمة.
وجزء من هذا الاختلاف طبيعي في خِلْقَةِ بعض الأفراد، ولكن الجزء الكبير يرجع إلى العادة؛
فمن السهل تعويد النفس النظر إلى الحياة نظراً بهيجاً مفرحاً.
ومن الملاحظ أن الذين يغلب عليهم الحزن هم الذين يكثرون التفكير في أنفسهم، والتفكير في مستقبلهم؛
فإذا اعتدل الإنسان في التفكير في نفسه، ووسع أفقه، وفكَّر في غيره، وفكَّر في العالم كان أقل حزناً، وأكثر ابتهاجاً.
وهذا الفن _ فن الابتهاج بالحياة _ يتطلب أن يقبض الإنسان على زمام تفكيره فيصرفه كما يشاء،
فإن رأى نفسه قد تعرض لموضوع مُقْبض كميزانية بيته، أو سوء مصلحته، أو متاعبه في وظيفته_
فليحول تفكيره إلى مسألة أخرى، ويثير مسألة من المسائل التي تجلب السرور عليه.
ومن الحكمة والعقل ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر؛
فليسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه، فإذا حدثت _ لا قدر الله _ فليقابلها بشجاعة واعتدال.
إن الرجل المبتهج بالحياة يزيده الابتهاج بالحياة قوة؛ فيكون أقدر على الجد، وحسن الإنتاج،
ومقابلة الصعاب من الرجل المنقبض الصدر الممتلئ بالهم والغم.
كل عادة تكتسب بالتمرين
وكما أن كل عادة تكتسب بالتمرين، فالصانع يكتسب صناعته من التمرين، والموظف يتقن عمله بالتمرين،
والنظافة والقذارة حسب الاعتياد، والأخلاق الفاضلة أو الرذيلة حسب الاستعداد _ فكذلك الشأن في مقابلة الحياة بالحزن والألم، أو بالابتهاج والسرور.
وما الحياة؟ مرحلة عابرة لا تستحق أن ينغص الإنسان نفسه فيها بكثرة الألم،
وكل ما يطلب من الإنسان فيها أن يقضيها على أحسن وجه مبتهجاً مسروراً فعالاً للخير،
يشعر بالفرح لفرح الناس، وبالخير يَصِلون إليه، ويبتهج بجمال الطبيعة وجمال ما فيها، فإن صادفه ما يؤلم نَحّاه جانباً إن أمكنه،
ورضي مطمئناً بما لم يمكن تغييره، وبهذا يعيش عيشة راضيةً، عيشة سعيدة موفقه.
إن أردت أن تعرف شيئاً صحيح هو أو فاسد؟ سواء كان هذا الشيء عادة من العادات، أو خلقاً من الأخلاق _
فانظر هل هو مما يزيد الحياة، قوة ويكسب الحياة صحة فاحكم عليه _ إذن _ بأنه عمل نافع .
وإن كان يضعف الحياة ويجعلها مريضة فاحكم عليه _ إذن _ بأنه عمل ضار .
ولا شك أن الهم والاستسلام للحزن، والخوف من توقع المكروه، والإفراط في تقدير الآلام _ مما يضعف الحياة، ويضعف الإنتاج، ويزيد الآلام والبؤس والشقاء؛
فحارب الكآبة في نفسك وابتسم للحياة، وابتهج بها في غير إسراف تزد حياتك، قوة وتشعر بالسعادة، وتُشعر بها من حولك.
إن الابتهاج بالحياة فن من الفنون جهلناه، فأصبحت حياتنا كالماكينة التي وضع جزء منها في غير موضعه،
فسبب ذلك خراب الماكينةَ كلَّها، وضوضاءها في سيرها، وعدم انتظامها، والذَّنْبُ ذنبُنا لا ذنب أي شيء آخر.
كل أسرة غالباً لها أوقات فراغ
خذ مثلاً الأسرة؛ فكل أسرة غالباً لها أوقات فراغ تقضيه في البيت مجتمعة، وهذا الوقت عند الأمم الراقية من أسعد الأوقات يقضونه إما في حديث ممتع،
أو في لعب فنية، أو نوادر طريفة، أو (فوازير) جميلة، فتنتعش بذلك النفس،
وتبتهج الحياة، وينسى كل فرد ما لقيه من متاعب عمله خارج البيت؛ فماذا نصنع نحن في مثل هذا الوقت؟
لَمْ نتقِنْ فن اللعب الظريف، ولا النوادر اللطيفة، وإنما أتقنا فن المشادة والغضب لأتفه الأسباب، وتنغمس الحياة بما لا يُحصى ولا يعد من أسباب.
إن أهم ما في الحياة معرفة طرق المعيشة، وكان من الطبيعي _ وقد كانت حياتنا أعز شيء علينا _ أن نبذل جهداً كبيراً في البحث عن أسباب سعادتها، والابتهاج بها.
فإذا خرجنا عن الأسرة إلى الحياة خارج البيت وجدنا الرجل يضيع أكثر أوقاته في الجلوس على مقهى ولعب شطرنج أو نرد أو نحو ذلك، أو جلس مع أصدقاء يتحدثون حديثاً سخيفاً في العلاوات والدرجات،
وتركوا أسرتهم تضيع الوقت _أيضاً_ في توافه الأمور؛ فلا الرجل يفكر كيف يسعد أهله، ولا المرأة تفكر في كيف تسعد أسرتها،
وقل من استفاد من الحياة كما ينبغي، فلا المناظر الطبيعية الجميلة تجذب انتباههم،
ولا القراءة اللذيذة الممتعة تسترعي انتباههم، ولا تخصيص وقت للخدمة الاجتماعية العامة تنال حظاً من أوقاتهم؛ فمن أين يفرحون؟ وبأي شيء يبتهجون؟
فالحق أن الحياة رواية في استطاعة الإنسان أن يجعلها رواية ضاحكة مبتهجة، وأن يجعلها مأساة حزينة مكتئبة.
إن أهم سبب في الابتهاج بالحياة هو أن يكون للإنسان ذوق سليم مهذب يعرف كيف يستمتع بالحياة،
وكيف يحترم شعور الناس ولا ينغص عليهم، بل ويدخل السرور على أنفسهم؛ فالذوق السليم قادر على استجلاب القلوب،
وإدخال السرور على نفس صاحبه ونفس من حوله، وكما قال القائل: ما تريد نيله بالتخويف والإرهاب يمكنك أن تناله بالابتسام.
الذوق السليم في البيت
تصور أسرة ساد فيها الذوق السليم نرى كل فرد فيها يتجنب جرح إحساس غيره بأي لفظ أو أي عمل يأباه الذوق،
بل إن ذوقه يرفعه إلى حد أنه يتخير الكلمة اللطيفة والعمل الظريف الذي يدخل السرور على أفراد أسرته.
إن الذوق السليم في البيت يأبى النزاع، ويأبى حدة الغضب، ويتطلب النظام، وحسن الترتيب، والاستمتاع بجمال الزهور،
وجمال النظافة، وجمال كل شيء في البيت، فلسنا مبالغين إذا قلنا: إن رقي الذوق أكثر أثراً في السعادة من رقي العقل؛
إن الذوق إذا رقي أنف من الأعمال الخسيسة، ومن الأقوال النابية ومن الأفعال السخيفة.
ولو استطعت لجعلت جزءاً كبيراً من مناهج التعليم في المدارس لتربية الذوق بجانب المناهج المكتظة بتربية العقل.
كل إنسان في الدنيا يضع على عينيه منظاراً حقيقياً أو مجازياً، وأكثرنا مع الأسف يلبس منظاراً أسود يريه كلَّ شيء أسود؛
فإذا نظروا إلى الأشياء نظروا إلى معايبها، ولم ينظروا إلى محاسنها، ولم يعجبهم حاضرهم،
ورأوا السعادة في غير ما هم فيه ولذلك يكثرون من إذا… ولو… ولعل… وعسى…
ولو حصل كل ما يتمنون ما زادوا شيئاً وما تغيرت حالتهم ما دامت على أعينهم هذه النظارات،
ولم يغيروها بنظارات بيضاء ترى الحياة على حقيقتها، وترى الدنيا مملوءةً بالمسرات مع قليل من الأحزان، وكثيراً من النعم مشوبة بقليل من النقم.
وهذه الأحزان، وهذه النقم قليلة القيمة إذا تسلح الإنسان بالشجاعة في مقاومتها،
وفي استطاعة الإنسان أن ينصب في نفسه سرادقاً كبيراً، إما لمأتم كبير، أو لفرح كبير.
ويخطئ كثير من الناس فيظن أن الابتهاج بالحياة معناه اللذة الحادة الجامحة،
ويظنون السعادة في الإفراط في الملاهي على اختلاف ألوانها، إما في سكر مفرط، أو غشيان دار من دور اللهو الخليعة أو نحو ذلك.
إبادة وليس ابتهاجاً
وليس هذا ابتهاجاً بالحياة وإنما هو إبادة للحياة، وهذه اللذات الحادة كنار القش تلتهب سريعاً، وتخمد سريعاً، وقد يكون من أضرار التهابها وآلامها ما يساوي أضعاف لحظات لذتها.
إنما نعني بالابتهاج بالحياة موقف النفس إزاء الحياة، والاستمتاع بها استمتاعاً معتدلاً لاإفراط فيه ولا تفريط،
نريد بها حالة من أحوال النفس، تهيئ ذوقاً للاستمتاع بمحيطنا استمتاعاً أطول ما يمكن، وأقوى ما يمكن،
استمتاعاً يقوِّينا على الجد في الحياة، ويجعلنا أقدر على إسعاد أنفسنا وإسعاد من حولنا.
أما اللذات الحادة الوقتية فلذاتٌ وهميةٌ يتبعها من الألم أكثر مما تستوجب من اللذة.
إن راحة الضمير، ولذة العقل، ولذة الروح، ولذة النفس واللذة التي يشعر لها المرء إنه مصدر للخير يشعه على الناس كما تشع الشمس ضوءها.
كل ذلك ابتهاج بالحياة لا يعادله التمرغ في اللذات الدنيئة الوقتية التي تسبب لذة عارضة تعقبها حسرات دائمة.
__________
(1) فيض الخاطر، 10/ 202 _ 210.
#اسماء_مقالات_مميزة
#مقالات_في_السعادة
#الأستاذ_أحمد_أمين
اسماء مقالات مميزة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية المجموعة الثانية
اقرآ الكتاب على موقع المكتبة العربية الكبرى