أصداء ملحمة البوسنة في الشعر المعاصر (2) مقال للكاتب د. حسن فتح الباب حسن رحمه الله، نشر في مجلة الفيصل عام 1995 ،
أصداء ملحمة البوسنة في الشعر المعاصر (2)
بقلم د. حسن فتح الباب حسن
في الحلقة الأولى كتب د. حسن فتح الباب عن الأحرار الذين يتوحدون دفاعا عن شعب البوسنة والهرسك الذي يقبض على عقيدته مثلما يقبض على الجمر، و كيف أن هذه المأساة – التي تستعصي على كل إبداع – قد فجرت ينابيع الإلهام في نفوس الشعراء العرب والمسلمين.
ثم طوف بنا – شرقا وغربا – مع شعر الفروسية والفداء عبر العصور الإسلامية الزاهية، ليصل إلى ملاحم البطولة والجهاد في الشعر الحديث.
ثم قدم لنا الشاعر المغربي د. حسن الأمراني بوصفه نموذجا شعريا رائعا من تلك النماذج التي فجر إبداعها تلك البطولات التي يصنعها شعب البوسنة والهرسك المسلم.
وفي هذه الحلقة (الاخيرة) يتابع الكاتب الفاضل تقديم بعض تلك النماذج الإبداعية..
الشاعر المصري عبدالله شرف في قصيدته «أنشودة لسراييفو،
على وزن الهرج كتب الشاعر عبدالله السيد شرف قصيدته (انشودة لسراييفو)، ولعل اسم هذه العاصمة ذا الجرس التوقيعي هو الذي أوحى إليه باختيار هذا الوزن لملاءمته للطابع الغنائي الحزين الذي يؤثره ونعرفه في شعره بصفة عامة،
وهو يختلف عن الطابع الملحمي الدرامي الذي اتسمت به ملحمة الشاعر المغربي الدكتور حسن الامرائي.
فنسيج القصيدة الملحمية مضفور من الشخصيات والأحداث المتصارعة، وهو يتكون من خيوط متشابكة ولكنها متباينة يفضي بعضها إلى بعض، كالموجات المتتابعة التي تبدأ صغيرة ثم تكبر وتتسع دوائرها حتى تبلغ أوجها وترتطم يصخور الشاطى حيث تكون النهاية العاصفة.
أما القصيدة الغنائية فهي تشبه الكريمة، وقد تكون قرية من بنية (السوناتا) في تركيبها وإيقاعها الموسيقي الهادى الهامس الذي يمتاز بالبساطة وعدم التعقيد حتى يسهل حفظه وترديده.
ولهذا أطلق عبدالله شرف على قصيدته اسم (أنشودة)، فهو كثيرا ما يستلهم رؤيته من قضايا وأحداث واقعية، ولكنه يقطرها في بوتقة الرومانسية الشفافة كأجنحة الحلم أو الطيف.
إنه شاعر غنائي وجداني في المقام الأول، تذوب توقيعاته مثل كل الرومانسيين الأصلاء رقة وشجواء وعلى الرغم من التقائه مع شعراء الوجدان في صدورهم عن مشاعرهم الذاتية، فإنه يمزج هذه المشاعر بهموم الجموع،
فلا يصدمنا في قصائده ما نجده لدى بعض هؤلاء من انعزال وتقوقع في الابراج العاجية وعبادة للذات كأنها قطب العالم ومحور الكون وما عداها وهم، في حين أن تضخم الفردية هو الوهم والسراب.
ولو لم تكن قصيدة (أنشودة لسراييفو) قد نجت من آفة الفردية المغرقة في سماديرها لما بلغت من أنفسنا ما بلغت من وقع عميق دل عليه تجاوبنا مع المشاعر والأفكار التي عبرت عنها، فهي أنفاسنا ترددت في صدر الشاعر ثم تهدجت على شفتيه أنشودة رقيقة حزينة ولكنها ثائرة في الوقت ذاته،
ذلك أن شعر الحماسة الجزل المدوي ليس هو وحده المعبر عن الثورة على الظلم واستنفار الهمم للمقاومة والكفاح، فالصدى أيضا يهز القلب مثل الصوت الجهير،
وقد يكون أوقع أثرا مادام يتسم بالصدق والاصالة. فلنصغ إلى المقطع ول من القصيدة الشجية:
سراييفو
عصافير تخط النور مئذنة
ومحرابا…
ومسبحة تجملها الشراشيف
وترسم بالهدى دربا لتقتلع الاراجيف
سراييفو
جحيم في دمي يغلي .
وأطفال تتزالحزن في ألم
وأيام تهز صحائف التاريخ تسألنا:
إلام نظل نطويها وتطوينا التصانيف
إن الشاعر يرتفع بنا في لحنه الافتتاحي هذا إلى أفق المئذنة النوراني ويهيط بنا بعده إلى جحيم الواقع، في تفجر الدم، دم الشاعر، وهو دمنا، في العروق ويعتلي كالحمم، لأن أطفالنا هناك في البوسنة يعانون مأساة القهر والقتل والتشريد.
وترتفع النبرة سخطا على موقف المتخاذلين المتفرقين شيعا وأحزابا والمولعين بلعبة التصنيف، على حين يسقط الضحايا أشلاء على الدروب التي كانت تشع منائرها ومنابرها ينور الإسلام، ويكاد أن يتغلب الريف على الحق، والأساطير على الحقائق.
وفي الأبيات الأخيرة من المقطع تختفي الأفعال المعبرة عن الأخيلة الرقافة (تخط- تجمل. ترسم) لتظهر الأفعال الدالة على الحقائق المفزعة على أرض العاصمة البوسنية (يغلي – تنز- تهز- تسأل – تطوي)،
ويتجلى التاريخ في تبادله القاسي ونحن عن عبرته لاهون سادرون.
لاصخب الخطابة ولا ضجيج الهجاء، وإنما هو الهمي المتساب الذي يخز الضمائر الغافية، ويرجع الاسى نفوس الرحماء فيترك في الصدر غصة.
وقد استعمل الشاعر صيغة السؤال (الام) دون تقرير الإجابة لان التقرير هنا لغو وحشو:
سراييفو
رجال للمدى ارتفعوا .
وما خضعوا
ورغم القصف، والاوباش واقفة . . سراييفو
بكف تمسح الاحزان، والاخرى
تصدّ الحقد والنيران ضاحكة ت
ؤذن لانبلاج الصبح في ثقة
وحي على الفلاح الحق تسري في المدي لحنا وملحمة
فلا تجف الغطاريف
ما أكثر البكائيات حزنا على سرايفو، ولكن ما أقل القصائد التي تضمنت تمجيدا لبطولة شبابها المتدافعين كالصفوف المرصوصة يشد بعضها بعضا – كما جاء في الحديث النبوي تصوير التراحم المؤمنين – يسقط فرد فيسد الثغرة أفراد، يهوي صف فتخلفه صفوف لا تخشى الموت؛ بل تطلبه استشهادا إذا عزت الحياة، فالاستشهاد انتصار إذاعز الانتصار.
وذلك هو المعنى الذي عبر عنه أبو تمام يقوله في رثاء أحد الأبطال الشهداء:
فتى مات بين الطعن والضرب ميتة
تقوم مقام النصر إن فاته النصر
لقد مات الاطفال الابرياء ضحايا الوحشية الصربية وبكاهم الشعراء، ولكن النظرة الواعية للتاريخ تعلمنا أن الشعب المؤمن بقضيته حي لا يموت مهما زاد عدد الشهداء، وتتجلى روعة المقاومة الباسلة لشعب البوسنة حين تتذكر أنهم الأقل عتادا وسلاحا في المعركة، فليست المأساة وحدها هي التي هزت ضمير الشاعر وقلبه ولكنها بطولة هذا الشعب أيضا.
وبعد أيات خافتة يبث فيها عبدالله شرف أحزانه وما يشعر به من مرارة لعجزه عن غوث أبناء البوسنة وأسفه لموقف الشعراء الهائمين في وادي الغزل والتشبيب بالمرأة، وانتقاده أولئك الذين حاولوا الشعر باسم الحداثة إلى ألغاز، وهؤلاء اللاهثين خلف اللاعبين والمغنين، يرسل نغمة أخيرة متفائلة، ولكن تفاؤله غير مجاني لأن التاريخ شاهد على صحة هذا التفاؤل، كما تشهد عليه وقفة قتيان سراييفو الصامدة في عصر السفاحين والجيناء، وهي وقفة تدل على قوة الإيمان الذي ليس كمثله طاقة تتضاءل أمامها أعتى القوى:
سراييفو
ستبقى في المدى نغما يردد صيحة الإيمان في عصر به التاريخ تزييف
وسوف نظل ننشدها
سراييفو
سراييفو
الشاعر
خالد الحليبي في قصيدته (قطار الحافلات المقلة لأطفال البوسنة إلى أوربا)
ومن الرياض أهل علينا الشاعر خالد الحليبي في مجلة الفيصل (العدد ١٩٥- رمضان ١٤١٣هـ – مارس ١٩٩٣م)، فاشجانا يقصيدته (بركان.. صرخات في أذني قطار الحافلات التي تقل أطفال البوسنة إلى أنحاء أوربا)، إذ التقط بحاسته الراصدة المرهفة تلك الصورة التي تجسد بشاعة الطغيان الصري ، واستهانته بأدنى حقوق الإنسان، وتشفيه ممن لا حول لهم ولا قوة، وهم الأطفال الذين أولهم الأديان والمواثيق والشرائع الوضعية الدولية والإقليمية رعايتها، فحظرت العدوان عليهم بدنيا ونفسيا، ودعت إلى تأمينهم وعدم تشريدهم أو قطع الصلة بينهم . ..وبين ذويهم
وقد استخرج الشاعر من مشهد اطفال البوسنة المساقين في الحافلات قسرا إلى بلدان أجنبية بعيدا من وطنهم وأهلهم صورا جزئية منتقاة تعبر عن معاناة هؤلاء الصغار الابرياء، وتقيم ابناء شعريا ذا سمة قصصية؛ إذ يتطور من بيت إلى آخر حتى تبلغ ذروة المأساة في نهاية القصيد.
ويرجع الفضل في نجاح الشاعر إلى صدقه النفسي والفني وقدرته بذلك على تفجير أحاسيسنا المكبوتة، تعاطفا مع الضحايا وسخطا على المجرمين ومن وراءهم سرا أو علانية، وشعورا منا بالذنب لأننا من شهود المأساة العاجزين، ولسنا من المقاومين لها إلا بالقول الذي لايرد الجاني ولا يقطع يد المغتصب.
وتنقسم القصيدة إلى ثلاثة أجزاء، يخاطب الشاعر في أولها القطار مكررا سؤاله دون أن يلقى منه جوابا.
كما يتضمن هذا الجزء نداء خفيا من الأطفال إلى الشاعر فيما يخيل إليه، وهم يستغيثون به بحق ما يجمع بينه وبينهم من آصرة العقيدة الإسلامية، فيعجز عن تلبية النداء، ولا يملك إلا الدموع التي تنزف دما من القلب الطعين بأسنة الفجيعة، وإذا سألهم فإنهم مثله يعجزون عن الإجابة:
قف ياقطار فإنني –
ترتادني الغصص الظمـ
ماء ويرتوي مني اللهيب
قف إنني من هؤلا ء
وإن تباعدت الدروب
بيني وبينهم حبال
لن تقطعها الخطوب
وبراءة الاطفال تد
عو نخوتي، أفلا أجيب؟
دعني أسائلهم وإن
لم يستطيعوا أن يجيبوا
لغتي الدم المفجوع في
عيني والدمع الصبيب
وجراح قلب راعف الز
فرات يقدحها الوجيب
وفي الجزء الثاني من القصيدة يتابع الشاعر خطابه للقطار الذي يحمل الاطفال المشردين إلى المجهول، مكرهين على فراق أحضان أمهاتهم وملاعبهم التي كانت مسارح لهوهم ومراح بهجتهم.
وهو إذ يصور معاناتهم وبراءتهم يشبههم بالصفحات البيضاء التي لم يغشها دنس أو يشبها سواد، وقد تحولت بعد النكبة إلى عيون جوفاء ذاهلة ووجوه شاحبة من فرط ما أصابها من الذعر والهلع لدى مشاهدة المجازر التي ارتكبها الصريون، فلم تعد تغمض منهم الجفون إلا على أشباح الدم والدمار.
فقد نصب زبانية الجحيم مدافعهم وطائراتهم لتحصد الديار ومن عليها، وتحرق كل غصن لدي أخضر يرمز للأمن والسلام، وتجعل الديار التي غنيت بالامس أثرا من بعد عين، فإذا هي قاع صفصف عمرانها خراب واهلوها جثث تملأ الرحب، وبيوت الله التي كانت مرفوعة يذكر فيها اسم الله تتراءى أطلالا باكية تشكو إلى ربها ما فعل الظالمون، وإذا بهؤلاء الصغار يسقطون هم والشيوخ والنساء صرعى، أما الناجون منهم فيولون الأدوار فرارا من النار التي تحاصرهم من كل مكان: .
دعني أحدق في صحائف
لم تلطخها ذنوب
أستقرى العبرات في
أهدابها ومنى تلوب
وأذوب – يا للجمر. في
أنفساها لما تذوب
وأغيب في عينين عر
بد في مآقيها الشحوب
يجتاحها ألم الكبا
ر ويصطلي فيها الغروب
جمدت على أجفانها
صور المجازر لا تغيب
وتلفتت فإذا المدى
جثث وآلام تجوب
وملاعب الأمس الجمي
بل تئن ليس بها ديب
طوت المدافع حسنهن
وأحرق الغصن الرطيب
لم يبق إلا مسجد
يبكي وصربي غريب
في لحظة حيرى أمر
من الردى كان الهروب
إنهم أطفال البوسنة والهرسك المعذبون دون جريرة إلا أن يقول آباؤهم الكبار: ربنا الله، ويرفض الشباب الاستسلام، ويدافعون عن مقدساتهم حتى آخر قطرة من دمائهم.
وهؤلاء الاطفال ضحايا ولو ظلوا أحياء، ذلك لان مصيرهم – وقد سيقوا كرها إلى أرض غرية لايقل عن الموت سوءا، فكيف إذا كانت هذه الأرض المنفى هي إسرائيل معقل الصهيونية المدجج بسلاح الموت الذري، إذ أذاعت وكالات الأنباء أن مجموعة من أولئك المساكين المقهورين قد دفع بهم إلى وكر الأفعى، ويا للعار الذي يلطخ وجه ذوي القربى.
وينقل الشاعر في الجزء الأخير من القصيدة من ضمير المتكلم الذي صور عذابات الصغار أبناء البوسنة المشردين في الآفاق إلى ضمير المحاطب وهو طفل متهم يمثل جمعهم.
وتتردد هنا المعاني التي تضمنها الجزء الثاني ولكن في صور جديدة، ويفضح الشاعر نفاق الدول الاوربية التي نقلت أو استضافت هذا الطفل وأترابه لتنفي عن نفسها تهمة التواطؤ أو الصمت، ولتبرئ ساحتها من دم الضحايا ومن إقصاء بنيهم عن وطنهم، لعل الاحرار في تلك الدول وسائر أنحاء العالم يغفرون لها موقفها المشين.
كما يدين الشاعر خالد الحليبي الشعوب التي اتخذت موقف المتفرج لان الساكت عن الحق شيطان أخرس.
وهو ينعي على الأمة الاسلامية قعودها عاجزة عن الفعل، راضية بما يحيق بطائفة من أهلها من هوان.
ولكنه يختم قصيدته بنبرة متفائلة؛ إذ وقر في قلبه قول الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» (يوسف:87)، ومن ثم يرى بعين الشاعر التي تستشرف الافاق البعيدة وتعي حركة التاريخ ودلالتها أن نصر شعب البوسنة آت وإن طال المدى ودفع هؤلاء المؤمنون ثمن عقيدتهم وحريتهم دماغاليا ولسان حالهم قول الشاعر:
ولست أبالي حين أقتل مؤمنا
على أي جنب كان في الله مصرعي
وهكذا يتضح النص الشعري بأحاسيس مفعمة بالصدق والحرارة الشديدة التأثير، وبمعان تستوعب أبعاد المأساة والبطولة إنسانيا وسياسيا، مما يستحق به أن يدرج في عداد أدب المقاومة. فالصخ السمع إلى قول الشاعر مخاطبا الطفل البريء الذي سيأتي لاريب يوم يتحول فيه إلى بركان مستعريخترق بحممه أعداء البشرية:
ورحلت فارتحل النها
ر ووجهه الضاحي القشيب
يا أيها الطفل البريء
دُعيت والمضياف ذيب
سلبوك من وطن يحن
إليك وهو هنا سليب
مهلا قطار الماكري
ن فإنه يوم قريب
قف، هؤلاء الصبية الـ
أغرار بركان رهيب
فترقبن يوم انفجا
ر فؤاده إني رقيب