حُضن جدّتي ، مقال للكاتبة د. نيرمين ماجد البورنو ، أتذكر حين كنت تأتين الي بيتنا لتمكثي معنا شهراً لنجتمع وكنت أنت من يقرر ماذا سنفعل وأين نذهب
حُضن جدّتي !!!
د.نيرمين ماجد البورنو
حينما أتذكر بعض حكايات جدتي في ليلة قمرية ساكنه وهي تتلو الحكاية تلو الأخرى عن العادات والتقاليد والقيم والصعوبات التي كابدوها في حياتهم
ومدى المشقة والتعب في أعمالهم ومدي العلاقات الانسانية الفريدة من نوعها والتي تتسم بالمودة والرحمة والتي تخلو من سوء الظن والتربص,
أسرح ببيت جدتي وصوتها وقصصها وذكرياتها الجميلة ورائحة فراشها ودفء صوتها الذي ما زال قابع هناك ؛
وحيها العامر بأهله وزوّاره والذي لا تهدأ حركته ويملئه صخب الحياة,
والفول السوداني والبطاطا المشوية والكستنة والشاي بالنعنع والأعشاب والسهر والسمر ؛
وكنت اتساءل كثيرا كيف لجدتي كل هذا الحضور الكثيف من حولها من دون تكلف أو عناء ,
ربما تكون صدق المحبة أو هو القبول الذي أودعه الله اياها جزاء الصبر والرضا والقناعة.
جدَّتي أنتِ لست امرأة عادية حتى بريقُ عينيكِ لا يوصَفُ ؛
وطالما تساءلتُ وأنا أزوركِ في خليل الرحمن عن سرّ تلك السكينة التي أودع الله سرَّها فيكِ،
وعن سبب تلك البهجة التي تنبع من سريرتكِ لتجعل من مُحيَّاكِ شمساً تسطعُ في قلوب الآخرين ,
فكنت لا تتخلفين عن حضور عزاء لمواساة أهل الفقيد وفي الافراح حضورك مبهج وتكونين في مقدمة المصلحين عندما ينقطع حبل الود بين الناس؛
كيف أحكي عن امرأة خضراء الروح شفافة بيضاء القلب مثل السنابل الخضراء التي تجود بها الأرض كلما ارتوت غيثا ,
امرأة كشقائق النعمان رقيقة , وقوية كزهرة الصبار .
كم أحن الى جلستك
تصوري رغم السنوات التي رحلت عنا بها وأنت باسمة راضية تدعين لنا ؛
الا اني أستطيع أن أوصف بيتك ركن ركن وقطعة قطعة
فلقد كنت أفتح خزانتك لابدأ بعثرتي لأشيائك وما أجده من ملابس كنت ارتديها لكي اقلدك وأشم عطرك ,
وكنت إذا مللت دخلت مطبخك الصغير لكي اتنفس رائحة الهيل والقرفة التي تنبعث من مطبخك المرتب و لكى أصنع لك فنجان من القهوة لكي ارضيك
كنت كعادتي عنيدة لا أسمع الا كلامك , أتعرفين يا جدتي؟
كم أحن الى جلستك ونحن أحفادك حولك حول الكانون نعد الشاي على الفحم وكنا نتسابق جميعا على احتساء الشاي بالنعناع من يدك
ولا أنسى طفولتي الأولى حين كنت أرقبك وأنت تعجنين الأقراص وتتركيها تتخمر لتباشري بعد ساعات قليلة بتقطيعه وخبزه
كم اتذكر حين كنت تنصحيني بان أشرب زيت الزيتون والخروع
وما زلت أذكر حكايا الجارة التي كانت تساعد جدتي في الخبز في بعض الأحيان
وتباشرين بعد ذلك بسرد الحكايات عن عائلتك وطفولتك وصباك وتسترسلي في كلامك عن تلك الحقب البعيدة والتي مضي عليها الزمن ؛
وكنت في سري أقول ياه كم أنت شقية وذكية يا جدتي ,
ولم نكن وحدنا نحن الأحفاد من يجد الملاذ والحنان الكامل في بيتها،
بل نافستنا في ذلك قطط الحي التي كانت تتجمع عند باب بيتها لتأكل ما وضعته لهم من بقايا السمك والدجاج ؛
وأتذكر حين كنت تأتين الي بيتنا لتمكثي معنا شهراً لنجتمع وكنت أنت من يقرر ماذا سنفعل وأين نذهب ونضحك من قلبنا معك !!! ؛
استيقظت فجأة
أتعرفين يا جدتي ؟
اليوم وبعد أن كبرت أشعر أنني استيقظت فجأة وكأنني كنت في غفوة بعيدة ولكنها جميلة ؛
غفوة في عالمك أنت,
فلقد قرأت روايات وقصص كثيرة وعديدة ولكن رواياتك يا جدتي كانت كالقصيدة ؛
جدتي أنت ذكرى تسكننا وحنين نتوارى خلفه,
بك اري ان الدنيا ما زالت بخير وابتسامتك كانت رغم كبر سنك ومرضك ترغمني على التفاؤل فكم أحبك يا بركة بيتك ,
وكم افخر بنفسي حين أذكر أسمك , رحلت بهدوء ؛
فلا يمر يوما الا وأنت في بالي أتذكرك وأحن الى أيامك وأتذكر طفولتي التي قضيتها معك ,
جدتي أنت الاغلى على قلبي ولن أنساك ما حييت